بقلم: غادة حلايقة / الأردن
بالأمس، قضيت ليلتي في بيت جدي، لا
أعلم هل استطعتُ النوم حقاً، أم أن النوم كان يباغتني وقلبي لا يريد أن يترك جدي
وحيداً؟
كانت الغرفة التي أشغلها مقابلة
لغرفته، بينهما باب يؤدي إلى بهوٍ، وهذا البهو يؤدي إلى سلمٍ لولبي يصل إلى الغرف
التي في الأسفل.
فجأة، سمعت صوت جدي الذي تجاوز العقد
التاسع من عمره ينادي أقرانه - هو يعاني الزهايمر منذ عامين، فلا يتذكر إلا البلاد
- وفجأة نهض بصعوبة، وأخذ يتنقل وهو يستند إلى الجدران، وأنا أصارع النوم فلا أريد
أن يغلبني حتى أرى ما يريد فعله، توجه إلى الباب وحاول فتحه، راودتني صورة بشعة
عمّا سيحدث بعد هذا، فقفزت من فراشي، وأسرعت لأقفل الباب، نظر إلي باندهاش قائلاً:
- مين إنتِ ؟
- غادة يا سيدي.
أجبته، وأنا أحاول أن أمسك بيده
وأضعها على كتفي لأعيده من جديد إلى فراشه، لكنه تسمّر في مكانه، وعبثاً كنت أحاول
أن أشده إلى فراشه، وهو يسألني:
- بنت مين إنتِ؟
- بنتك يا سيدي!!1
- الله يرضى عليكِ.
- يطول عمرك سيدي.
قبّلت يده ورأسه، وأنا أرجوه:
- تعال معي بدي رجعك لترتاح.
وبعد محاولات عدّة بدأ يستجيب لي،
وعاد إلى سريره بشق الأنفس. أجلسته، فطلب مني الجلوس إلى جانبه ليكرر مستفسراً عن
اسمي، لكنه لم يتذكرني لأنني خُلقت بعد سنواتٍ طويلة من خروجه من البلاد، فأمسك
يدي، وحدّق بي قائلاً:
- يا سيدي ودّيني على البلاد.
وشد على يدي عند ذكره للبلاد. قبّلت
يده، وأنا لا أعلم بماذا أجيبه. آثرت الصمت، وعوضاً عن الكلام بدأت أعيده لينام،
لكنه أمسك كتفي بكل قوةٍ وهو يرجوني بأن أعيده ليموت هناك، ويخبرني بأن لا وقت
عنده سوى أيامٍ قليلة!
تسمّرتُ في مكاني، محاولةً إخفاء صوت
بكائي، وأنا أريح رأسه على الوسادة، ومع إلحاحه، همست في أذنه قائلة:
- يا سيدي حكيت معي البلاد اليوم، وخبرتني
أنها راحت لبعيد ما بتعرف متى رح ترجع! ولكنها ستعود.
ووعدته عند عودتها بأن أعيده على كتفي
للبلاد.
كان كالطفل يبتسم وهو ينظر إلي،
وكأنني وعدته بأن أعيد إليه الروحَ وزمنا مضى لن يعود، مسح بيده على رأسي، وتمتم
ببعض الدعاء لي.
وبعد أن أطمأن قلبي بأنه لن يعاود
الخروج من جديد - على الرّغم من أنه لم ينم بعد، بدأ بالنداء على رفاق له قد قضوا
في البلاد - عدت أدراجي وأنا أوقن بأن كلمات جدي لم تخرج عبثاً (ما ضل كتير).
أطلّ الصباح وأنا لم أنم إلاّ بعد أن
ذهب في نومٍ عميق، أستمعُ لمدى شوق جدي لرفاقه بعد أعوامٍ طويلة من النكسة..
أغمضت عينيّ وأنا أردد: سامحني يا
جدي، فلن أوفِ بوعدي لك عمّا قريب، فالبلاد قد ضاعت وتشرد أهلها.. وأنت مازالت
روحك تسرح في الوديان هناك، وعند ينابيع مائها تنادي محمد وخليل وإسماعيل ويوسف،
وتنسى اسمي.
بقلمي
غادة حلايقة
الذاكرة لا تهرم، فكيف بالبلاد تهرم؟
ردحذفقصّة مؤثّرة.
دام إبداعك.