لغز الأسطورة بين الواقع والخيال

غادة حلايقة / الأردن


لطالما تردّدت كلمة (أسطورة) على مسامعنا في أيّام الطفولة عبر قصصٍ وحكايات سُردت لنا، فجلسنا صامتين متأملين في ماهية (الأسطورة)، مذهولين للقِوَى الخارقة فوق الطبيعة لأبطال القصص كـ(السندباد، وعلاء الدين، وعلي بابا... إلخ).
وبنظرة إلى الثقافات والحضارات على اختلافها، نتبين بأنّ الأسطورة تدخل في مجمل حكايات التاريخ، ولكلّ حضارة أسطورة ترمز لها وتحكي عنها.


الأسطورة كمصطلح:
الأسطورة هي عبارةٌ عن أحداث خارقة للعادة، أو وقائعَ تاريخيّة قامت الذاكرة الجماعيّة بتغييرها وتحويلها وتزيينها، واستناداً إلى رأي بعض العلماء، فالأسطورة عبارة عن شائعة أصبحت جزءاً من تراث الشعب الشفهي. وكانت فيما مضى عِلماً يُدرّس كسائرِ العلومِ، لأنها سرد قصصيّ يهدفُ إلى تفسير شيء ما في الطبيعة، وشرح بعض الظواهر الطبيعيّة كنزول الأمطار والزلازل والبراكين...، أو تفسير نشوء الكون الأشمل. وكانت فيما مضى تُقترن الأسطورة بطقسٍ دينيٍّ معيّن، وينظر لهذه الطقوس الآن كضربٍ من ضروب الخيال.
وقد دخلت الأسطورة فيما مضى بكافّة مجالات الحياة، حتى في الطبّ، حيث أن شعار الحيّة الملتفة على عصا، يعود إلى العصور الميثولوجية القديمة كـ(عصا اسكليبيوس)، و(عصا هيرمز أو القادوسيوس).


الأسطورة في الأدب:
استُخدمت الأسطورة في الأدب منذ القِدَم وحتى يومنا هذا، ويعود ذلك لعدة أسباب، أهمها:
1- عمقها الفلسفيّ.
2- لكونها نوعاً من العلوم التي كانت تدرس قديماً.
3- لأن أبطالها في معظم الأحيان من الآلهة، أو أنصاف الآلهة.
4- لأن الأسطورة تروي قصصاً مقدّسة تُبرر ظواهر الطبيعة والنشوء، وخلق الإنسان.
5- العلوم التي تناولتها الأسطورة هي الفلسفة والعلوم الإنسانية عموماً، عن طريق الأسطورة (الطقوسية)، وأسطورة (التكون)، والأسطورة (التعليلية)، والأسطورة (الرمزية).


مناهج الأسطورة:
أدى تنوّع الأسطورة وتشعُّبها واختلافها إلى نشوء مناهج تركِّز في مواضيعَ الأسطورة، أقدمها (المنهج اليوهيمري) والذي يقوم بتمجيد الأبطال، و(المنهج الطبيعي) الذي يعتبر بأنَّ هؤلاء الأبطال هم ظواهر طبيعيّة شخَّصتهم الأسطورة، و(المنهج المجازي) الذي يوضّح بأنّ الأسطورة قصّة مجازيّة تخفي معنى الثقافة لحضارة ما، و(المنهج الرمزي) الذي يقول بأن الأسطورة رمز، تعبّر عن فلسفة كاملة لعصرها، و(المنهج العقلي) الذي يوضّح بأنّ نشوء الأسطورة نتيجة خطأ في التفسير، أو قراءة أو سرد رواية أو ظاهرة معيّنة.


الأسطورة الشعبية:
تُشابه الأسطورة في الأدب الشّعبي الواقع إلى حد ما، وتُعالج قضايا وهموم يوميّة، شخوصها أناسٌ عاديّون، يُضاف إليها في بعض الأحيان إشارات إلى أحداث خارقة أو خرافيّة.
والرواية الشعبيّة –بأساطيرها- ترمز الى الأرض والشعب، وتعكس ثقافة الأرض وتراثها، وخصوصية هذه الثقافة.


الأسطورة في الشعر الجاهلي:
إنّ افتقار الشعر الجاهليّ للأساطير أدّى إلى تشكيك بعض الدارسين -وعلى رأسهم طه حسين- في وجوده، فما وصلنا من قصائدَ جاهليّة يخلو من إشارات واضحة لمعتقدات العرب قبل الإسلام، وقد فسّر البعض هذه الفَجوة بفكرة أنّ الرواة تخلّصوا بعد مجيء الإسلام من كل الأشعار التي تحمل معاني وثنيّة، بما في ذلك التي تحدّثت عن العالم الآخر، فيما عدا بعض الإشارات حول عبادة الأصنام، والسبب هو عدم معرفة العرب بالحضارات الأُخرى، وتحديداً (النصرانية) وأساطيرها، لأن الأخيرة ظلت دين (الخاصة) من العرب، باستثناء الشاعر الجاهلي (أمية بن أبي صلت)، الذي كثُرَت أسفاره وخاصة إلى بلاد الشام، وقراءته لكتب الأولين -لأنه كان طامحاً للنبوة-، وكانت أسطورة العالم الآخر -بفردوسه وعذابه- في نص أمية جزءاً من ثقافته الأجنبية، والتي أعاد صياغتها شعراً، فكانت نصّاً استثنائياً في العصر الجاهلي:

جهنــــــم تــلك لا تبقـــــي بغيـــــــــــا
وعــــــدن لا يطالعهــــــــا رجيـــــــــم
لـذا شـــــبت جهنـــم ثـــــم فــــــــارت
وأعرض عن قوابسها الجحيم
بصنـــــــــدل صـــــــــــم صــــــــــــــراب
كـــأن الضـاحيـــات لهــا قضيم


الأسطورة في العصر الحديث:
أما في العصر الحديث، فقد أصدر (فرويد) تفسيره للأساطير عن فكرته الأولى، في أن غرائز الجنس هي أهمّ بواعث الأعمال الإنسانيّة، وأهم ما أصابت به الحياة الاجتماعيّة الإنسان من عُقد كـ(عقدة أوديب).
وصوّر (كارل يونغ) الأسطورة بأنها: "صور ابتدائية لا شعوريّة، أو رواسب نفسيّة، لتجارب ابتدائيّة لا شعوريّة لا تُحصى، شارك فيها الأسلاف في عصور بدائيّة، وقد وُرثت في أنسجة الدماغ، بطريقة ما".
لقد أثّرت آراء (فرويد) و(يونغ) في الاتجاهات الأدبية المعاصرة، واعتبرت الأسطورة "عملاً فنياً رمزياً".


الأسطورة في الشعر العربي الحديث:
مرّت الأسطورة في الشعر العربي الحديث بعدّة مراحل:
- المرحلة الأولى:- مرحلة صياغة الأسطورة... وابتدأت في النصف الأوّل من القرن العشرين، فقد كان (شوقي) يصوغ حكايته عن الحيوان، وكان (شفيق معلوف) يصوغ الأساطير العربية في عبقر، وكان (علي محمود طه) يصوغ أرواح وأشباح والرياح الأربع عن أصول فرعونية وشخصيات يونانية، وكان (إلياس أبو شبكة) يصوغ قصص الكتاب المقدس وما اختلط بها من أساطير... والأسطورة في هذه المرحلة، كاد أن يكون لها استقلالها الموضوعي.
- المرحلة الثانية:- مرحلة توظيف الأسطورة في بناء القصيدة... ابتدأت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وحتى يومنا، وأهم شعراء هذه المرحلة (بدر شاكر السيّاب).


مصادر الأسطورة في الشعر العربي الحديث:
كان للأسطورة في الشعر العربيّ الحديث منابعَ ومصادرَ عدّة:
1- من الأساطير: وهي المصدر الأصليّ، حيث تمّ اللّجوء إلى الأساطير اليونانيّة، والفينيقيّة، والآشوريّة، والبابليّة، والفرعونيّة، وفي بعض الأحيان الإفريقيّة والصينيّة.
2- الحكايات الشعبيّة: والتي تروي عن العرب ما قبل الإسلام، كأحاديث (جذيمة والأبرش)، وحكايات (الزبّاء) ملكة تدمر، والأقاصيص حول (سنمار) والأمثال التي ضُربت فيه... وأهم الحكايات الشعبيّة التي أثّرت في الشعراء العرب المعاصرين (كليلة ودمنة)، و(ألف ليلة وليلة).
3- التاريخ والكتب المقدّسة: كـ(التوراة) وما ازدحمت به من حكايات مُثيرة، وأيضاً أهم الأسفار، وخاصة الأسفار التي تكاد تكون شعراً كالمزامير، والجامعة، ونشيد الأنشاد، وتعتمد الصورة الشعرية في هذه الأناشيد على موجودات البيئة البدوية، من حيوانات وأشجار وأثمار، وبخاصة (البيئة الفلسطينية). و(الإنجيل)، وقصة (صلب المسيح)، وموعظة (الجبل) وكلمات المسيح في الإنجيل، وشخصيّته المُثيرة والخارقة للعادة. والقصص الواردة في (القرآن)، كقصة (عصيان ابن نوح)، ووقوف الشيطان أمام الذات الإلهية...


المؤثّرات الأجنبيّة للأدب والشّعر:
أما المؤثّرات الأجنبية للأدب والشّعر:- كتأثير (لافونتين) في شوقي، والتأثير الرومانتيكي. والتأثير الرمزي في (سعيد عقل)، وتأثير (إليوت) في مدرسة الشعر الحر.
استقى شعراء العرب كثيراً من الأساطير:
- اليونانية (سيزيف)، و(بروميثيوس)، و(أوديسيوس)، و(بنيلوب)، و(أدونيس)، و(فينوس)، و(برسفون).
- والبابلية (تموز)، و(عشتروت).
- والعربية (السندباد)، و(شهرزاد)، و(شهريار)، و(عنتر)، و(أيوب)، و(قابيل وهابيل).
- والعبرية (المسيح ولعازر)، و(يهوذا).


وقد فسّر (بدر شاكر السياب) إقبال الشاعر الحديث على الأسطورة "لانعدام القيم الشعريّة في حياتنا الحاضرة، ولغلبة المادّة على الروح، لهذا يلجأ الشاعر إلى عالم آخر، يحس به بالارتياح".


الخاتمة:
لم ولن ينتهي الجدل حول الأسطورة بتشعباتها واختلافاتها، في الزمان والمكان، وأميل إلى الاعتقاد -بعد البحث في موضوع الأسطورة- بأنها نشأت في الماضي لعدم القدرة على تفسير الظواهر الطبيعيّة، فذهب الإنسان الأوّل بتفسيرها حسب رؤيته لها كشيءٍ خارقٍ، وأيضاً يمكن أن تكون الأسطورة حقيقيّة، وقد ذكر في القرآن الكريم "وأساطير الأولين"، أي قصص وحكايات الأمم السابقة، كما أنها ناتجة عن المعجزات الإلهيّة الخارقة والتي رافقت الأنبياء، ومن هنا بُنيت عليها الروايات والحكايات.
ويبقى الإنسان -برغم مرحل تطوّره منذ آلاف السنين- الأسطورة الأصعب واللّغز الأكبر، حتى يومنا هذا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam