قصّة بقلم: غادة حلايقة
جَلَستُ أمامَ شاشةِ التلفازِ، مُنهمكةً بتشذيبِ أظافِرِ
يَدَيْها، لقد أصبحتْ تلكَ العادةُ مِنَ اليوميّاتِ الأساسِيّةِ التي تُمارِسُها جَنباً
إلى جنبٍ مع اهتمامِها بِتسريحَةِ شَعْرِها وتَبرُّجِها، ومُتابعةِ آخرِ صَيحاتِ
الموضة. لا تَعرِفُ عنِ الثقافةِ سِوى مطالعةِ مَجلاّتِ الأزياءِ، وآخرِ صَرْعاتِ
الماكياجِ، ومُتابعةِ أخبارِ المشاهيرِ وفَضائِحِهِمْ في كلِّ رُكنٍ مِنَ العالم!
ها هي نشرةُ الأخبارِ المسائيّةُ، لَمْ تَكُنْ تُصغي لِما
يُبَثُّ فيها عن حُروبٍ هُنا، ومَجاعاتٍ هُناك، فهذهِ الأمورُ لا تَعنيها، إنّ جُلَّ
هَمِّها كيفَ سَتَبدو في حفلِ زفافِ ابنةِ خَالَتِها يَومَ غَدٍ.
كانَ المذيعُ يردِّدُ باستمرارٍ (خارطة الطريق)، تنبّهتْ
لصوتِهِ، بَحَثَتْ عن جهازِ التحكُّمِ عَن بُعدٍ لتُغلقَ التلفازَ، وهي تُتمتمُ في
سِرِّها:
- يبدو أنَّ أحدَ المُهمّينَ قَد ضَلَّ طَريقَهُ، فأعلَموهُ
عَن الطَّريقِ وساعَدُوهُ عِبرَ نَشراتِ الأخبارِ لَعلَّهُ يَرى، فَيعْرِفُ أينَ يَسير!
كانَ صباحاً جميلاً، أعَدَّتْ نَفْسَها للخُروجِ إلى
(الكوافير)، فهيَ لا تُريدُ أيَّ مُعيقاتٍ قد تُؤثِّرُ في نفسِيَّتِها، وبالتَّالي
تنعكسُ على زينتِها.
أسرعتْ خارجةً مِنَ البيتِ نحوَ وُجْهَتِها، قاصدةً
أولاً (السوبر ماركت) لتَبتاعَ الشوكولا، فهي تَتْرُكُ في النّفسِ انطباعاً جميلاً،
أخذتْ تَتَصَفَّحُ عناوينَ المجلاّتِ والصُّحُفِ الموجودةِ هناك، ريثما يحينُ دَوْرُها،
لفَتَها عنوانٌ يتصدّرُ أغلبَ الصُّحُفِ (خارطة الطريق)، ابْتاعَتِ الصَّحيفةَ،
لتعلَم - وكنوعٍ من الفضولِ - ما حكايةُ ذاكَ التّائهِ؟! وكي لا تشْعُرَ بالملَلِ
أثناءَ تسريحِ شَعرِها - وكنوعٍ من الإيتيكيت - لتظهرَ أمامَ النساءِ هناكَ
بانتسابِها لصفوفِ المُثقّفاتِ، قلَبَت الصحيفةَ على الخبرِ، فلم تفْقَهْ مِنَ
الأمرِ شيئاً سِوى كلمتَي (الفلسطينيّين، والإسرائيليّين)، قذفت بالصَّحيفةِ
جانباً، بلا مبالاة:
- خارطةٌ وطريقٌ وفلسطينُ وإسرائيلُ؟
ما علاقةُ الطريقِ بفلسطينَ؟ وأين تقعُ فلسطينُ على الخارطةِ؟ وما شأني أنا بهذه
الأمورِ؟!
وضَعَتْ رأسَها تحتَ (الستيم) فغَفَتْ، لترى نفسَها في
طريقٍ تسيرُ بغيرِ هُدىً. سَمِعَتْ صَوتاً يُناديها:
- تبّاً لك يا امرأة، فكعب حِذائِكِ يُدميني!
تلفّتَتْ حولَها بذُهولٍ، لكنّها لَمْ تَلمَحْ أحداً. صَرخَتْ
مَذعورةً:
- من أنتَ؟
- انظري إلى الأسفل أيّتُها الحمقاءُ، أنا الطريقُ إلى
فلسطينَ التي لا تعلمينَ موقِعَها على الخريطةِ!
- ماذا تُريدُ منّي؟ وما شأني بتلكَ المدعوَّةِ فلسطين؟
- شأنُكِ كباقي العبيدِ، أصبَحتُمْ جميعُكُمْ على الحالِ
نَفسِهِ، لا يؤلِمُكُمْ سِوى حالِ نَزَواتِكُمْ، إليكِ عنّي أنتِ والجميع، فأنا
أمتدُّ صامتاً لأصلَ تلك المسكينةَ التي ماتزالُ يقظةً، تسألُني عن حالِكُمْ المَقيتِ،
فأُجيبُها بأنَّكُمْ تتألَّمونَ لِحالِها، فلْيَغْفُرْ ليَ الربُّ خطيئةَ الكذِبِ.
- ما هذه التُّرَّهاتُ التي تَنطُقُ بها أيُّها البائِسُ؟
ما شأني بِصَحوِها ومَنامِها؟ انصَحْها بِأنْ تَتَناوَلَ مُهدِّئاً قَبلَ النَّومِ،
لتَخْلُدَ بكلِّ راحةٍ بعدَها. دَعْني وشَأني أيُّها الإسْفَلتُ اللّعينِ.
- عمَّنْ تَتَحَدَّثينَ أيَّتُها البَلْهاءُ؟ تِلكَ التي
لا تتجاهَلينَها صَنَعَتْ لكِ تاريخاً وحضارةً، قدّرَهُما الإسفلتُ الذي به تهزئين،
وأنتم جميعاً تبادلتُمُ الدّورَ معهُ ودفَنْتُم فيه ضمائِرَكُمْ، لِيَصحُوَ وأنْتُم
أمواتٌ تَتَحَرّكون... اغرُبي عن كاهِلي ما أثْقَلَ ظِلَّكِ!
استيقظتْ مذعورةً، وأقسمتْ بألاَّ تقرأَ حرفاً يُوَلِّدُ
كابوساً اسمُهُ فلسطين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق