عندما يبتسم الاسفلت

عندما يبتسم الاسفلت

كان يسير، يلاحقه ظلّه النحيل في طرقات الشقاء، يحاول أن يجمع ثمن ربطة خبز، وسيكون حظه وفيراً إنْ استطاع ادخار بعض الفِلسات..
أنهكه التعب فجلس على أرصفة إحدى الطرقات التي لا ترحم، لم تشفع له سنون عمره الثمانية من إسقاط هذا الحمل عن كاهله وهو يرى تجوال أمه للعمل من بيتٍ إلى بيت لتوفير قوت يومهم، وضمان الحياة ليوم آخر.. كان يبكي كالكبار بصمتٍ، نعم فقد أشْقَتْه حياته القصيرة.
أخرج كسرة خبزٍ جافّة من كيسه الأسود الذي يخشى أنْ يفقده، ففيه مقوّم الحياة الذي يضمن له الاستمرار في المسير حتى مغيب الشمس.

سرح الصغير ببصره يُلاحق نملةً تُكابد وتجول محاولة الاستمرار في سيرها على الرغم من حملها الثقيل المتمثل بفُتاتةٍ من الخبز بضعف حجمها... كم تشبهه تلك النملة!
توقّفت أمامه سيّارة فارهة، أخرجته من حالته للحظات، ترجّل منها ثريٌ يمتلئ بالفراغ، تلاقت عيناه مع الصغير الذي لم يكن منتبها لوجوده في ذلك الوقت، فجلّ همه ينحصر في تلك النملة... هل ستصل؟؟
عاد الصغير من جديدٍ يُتابع النملة بشغفٍ، لم يشعر بمكانه، ونسيَ تعبه وجوعه وكأنه تساقط من رأسه المطأطئ في ذلك الوقت، وهو يتساءل .. هل ستصل؟؟
ابتسم الرجل، فبوجوده تنحني كلّ الهامات.. صغيرةً أو كبيرة، فقد جاهد طويلاً في السّعي للبحث عن أساليبٍ لتلميع هالته التي ورثها عن أبيه الذي انتهى دوره في أحد دور المسنين ليحلّ مكانه !
راقب ما اعتقد أنّه انكسار الصّغير أمام هيبته المزعومة، وطيف ابتسامة رضى مريضة ساخرة تستهين بأوجاع البشر ترتسم على وجهه الصخريّ الذي يخلو من علامات الآدمية، ودسّ يده في جيبه ليكافئ الصغير على انكساره، فأخرج ورقة نقديّة وألقاها باتّجاهه، وعاد ليجلس في سيارته الفاخرة.. ويراقب كيف سيركض هذا الطفل لالتقاط تلك الورقة.. كان يبحث عن التسلية في حاجته.
لم ينتبه الصغير للثريّ، ولم يرَ الورقة النقديّة، حتّى أنّه نسيَ أنّه جالسٌ على الرصيف، يُراقب النملة التي بدأت تقترب من مكانها المنشود في ثقب صغير أسفل الرصيف الأسود.. وكأنه يستمد العزم من مثابرتها وإصرارها ليكمل مسيره، هل ستقوى تلك الضعيفة على كل هذا الحمل؟؟
وأخيراً وصلت... ابتسم الصغير الذي أشرق وجهه الملوّث بغبار الفقر والإسفلت والحاجة.. ابتسم وهو يفكّر بحملها الكبيرة، وبالثقب الذي صنعته تلك النملة الضعيفة في جانب الرصيف لتصبح سكناً..
عادت الحياة تُشرق في قلبه الصغير، ومضى لمتابعة حربه ولسان حاله يردد: سأصل أخيراً.
ظنّ الرجل بأنّ الصغير ابتسم لورقته النقديّة، وانتظر أن يلتقطها خاصّة بعد أن رآه يقف ليتابع مسيره.. كان مبتسماً.. رفع رأسه للسماء وكأنّه يحاور الربّ في تلك اللّحظة.. داس ورقة الذلّ دون أن يراها، ومضى وسط ذهول نظرات الثريّ الّذي تساقطت ابتسامته المهترئة على الإسفلت الذي يحمل لون أعماقه!


بقلم
غادة حلايقة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam