مرونة دمشـق

مرونة دمشـق

أشهدُ في دمشق أمراً عجيباً ولست أدري هل أشهد مثله في بلد آخر! فقد شرعت في مخالطة الناس بعد الحرب الكُبرى الأولى، فجالست من جالست وعاشرت من عاشرت.
والذي شهدته من أوّل حياتي أنَّه إذا عاش في دمشق رجل من لبنان أو فلسطين أو مصر أو الحجاز أو العراق أو من أيّ بلدٍ آخر فإنّه لا يغيِّر في حديثه لهجة بلده؛ فإذا كان من لبنان كانت لهجته اللبنانية، وكذلك إذا كان من الحجاز أو العراق أو من أي بلدٍ آخر، فقد يقيم القادم على دمشق من بلدان غير الشام سنين طويلة، تبلغ عشرين سنة أو ثلاثين، سنة فأراه بعد هذه الإقامة الطويلة كأنَّه لا يزال يقيم ببلدة بين ظهراني قومه يخاطبهم بلهجته فلا يتغيّر شيء من هذه اللهجة.
وقد كانت لي صلة صداقة بجماعةٍ من رجال الصحافة، بعضهم من بيروت وبعضهم من يافا، وكانت لي صلة برجال آخرين من مصر أو بغداد، فكنت إذا جالستهم بعد أقامتهم بدمشق عشرين سنة أو أكثر، وكنت إذا حدَّثتهم أو حدّثوني فلا أراهم ينحرفون في أحاديثهم عن لهجة بلدهم. فلم يؤثّر في شيءٍ من لهجتهم إقامتهم بدمشق زمناً طويلاً.
وعلى عكس هذا الأمر ما أراه من أهل دمشق، فإذا غادروا بلدهم إلى بلدٍ آخر مثل لبنان أو مصر أو الحجاز أو العراق أو غيرها من البلدان، فإنّهم لا تكاد أقدامهم تطأ تلك البلاد، ولا تكاد آذانهم تسمع لهجات أهلها حتى يأخذوا بتقليد هذه اللّهجات، فتراهم يعدلون عن لهجتهم الدمشقيّة ويميلون إلى لهجة البلد الذي أقاموا به، فإذا كانوا في مصر قلَّدوا أهل مصر في لهجتهم، وإذا كانوا في العراق تشبّهوا بأهل العراق في لهجتهم على صعوبة هذه اللّهجة، حتى إنّي كنتُ في بعض سفراتي إلى مصر أضطر إلى مجاراة أهلها في لهجتهم على الرغم من استغرابي لهذا الأمر. وكنتُ إذا حاولت المحافظة على لهجتي الدمشقيّة أُحافظ عليها مرّة وأعجز عن هذه المحافظة مرّة.
وأعرف صديقاً من أصدقائي رحل مرَّة على الحجاز وأقام بين السعوديين زمناً غير طويل، ثم عاد إلى دمشق يلبس لباس السعوديّين ويُقلّد لهجتهم في أحاديثه، ويكرر بعض عباراتهم المألوفة، حتى كان إخوانه يتنادرون به، إلاّ أنّه ما لبث أن طرح اللّباس السعوديّ وتخلَّى عن لهجة أهل نجد وعاد إلى لهجته الحمصيّة رحمه الله أوسع الرحمات.
لقد شهدت دمشق من أوّل تاريخها حتى عصرنا هذا كثيراً من الفاتحين والغُزاة الذين مرّوا بها، واستولى عليها كثر من الملوك والولاة، فكان أهلها مضطرين إلى مسايرة أولئك الفاتحين والغُزاة حرصاً على أمور دنياهم، فخلقت فيهم هذه المسايرة نوعاً من المرونة جعلتهم يتخلّون في بعض الأحيان عن خصائصهم ويأخذون بخصائص من هجم عليهم من الفاتحين والغزاة. ومن هذه الخصائص تقليد اللّهجات سواء أكانت سهلة أم كانت صعبة، حتى كاد هذا التقليد أن يكون فيهم على ترادف السنين ابن الطبع.
على أن هذه المرونة على المسايرة لا تتعدّى تقليد اللّهجات أو اللّباس أو نحو ذلك، فإنّهم إذا اضطروا إلى الانتفاض على الغُزاة والفاتحين والملوك والولاة انتفضوا، وإذا أُلْجِئوا إلى الثورة ثاروا، فهم قد جمعوا بين المرونة وضدّها، فما أسرعهم إلى الانتفاض والثورة!
على أنّه قد شهدت بلاد ثانية مثل الذي شهدته دمشق في ماضي أحقابها. لقد شهدت مصر مثلنا كثيراً من الغزاة والفاتحين فلم يعمد أهلها لتغيير لهجتهم في أحاديثهم من باب المسايرة مثل الذي فعله أهل دمشق، فهل معنى هذا أنهم أقلّ مرونة؟ هل معنى هذا أنّ أهل دمشق قد اختصهم الله تعالى بهذه المرونة دون غيرهم؟
هذا أمر شهدته في خمسين سنة من أوّل حياتي العامّة، وقد حاولت أن أجد له سبباً من الأسباب أو علّةً من العلل فلم أجد إلاّ ما ذكرته من ميل أهل دمشق إلى المسايرة ولو حيناً من الدهر.
وقد أكون مُخطئاً في تقديري أو قد أكون مصيباً، وعلى كل لا أجزم ولكنّي أخمِّن تخميناً، وأشعر بأنّه قد أدركتني الحيرة في الاهتداء إلى حقائق الأسباب والعلل، فأكتفي بتدوين هذا الأمر الذي خطر على البال في هذه المسألة غير قادر على الزيادة في الإيضاح، فلستُ من علماء هذا الباب في وجه من الوجوه، فإذا عنَّ لي أمرٌ في هذا الموضوع فلا أقطع به.

بقلم:

شفيق جبري - 1980



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam