قصة تِركَةُ المرحوم

قصة  تِركَةُ المرحوم

ابتعدوا... أفسحوا الطريق... أفسحوا الطريق.
راح الحاجب يصرخ مفسحاً طريقاً للمختار الذي يتبعه رافعاً رأسه، وذيل عباءته يلحق به. بينما كان المختار يتّخذ مجلسه على المصطبة الصغيرة، كان الثغاء يتصاعد من هنا وهناك. أشار المختار بيده دون أن يفتح فمه، فصمت الجميع:
رحمه الله... كان رجلاً فاضلاً رغم فقره.
رحمه الله.. رحمه الله، تعالت أصوات هنا وهناك.
ساحة الدّار الصغيرة مكتظّة بالناس، في الحاكورة تناثر البصل الأخضر، دجاجة توقوق داخل قفص صغير، وحولها بضع صيصان، عنزة صغيرة تجثو أمام كومة من العشب، والابنة الوحيدة للمرحوم تقرفص بجانبها، بينما وقف الابن الوحيد متحفّزاً وبيده عصا المرحوم الوحيدة، بعض قطع الأثاث، كيسا حنطة، تنكة من الشعير، ألقوا في الزاوية.
أليس عندكم ماء للشرب؟ سأل المختار..
ماء للمختار.. ماء للمختار، صاح أحدهم وهو يركض.
اقتربت امرأة بثوب مبرقع بالأوساخ من الجب وسط ساحة الدار، أدلت بدلو صدئ وأخرجت بعض الماء، تناولت قطعة قماش رقيقة من امرأة تقف إلى جوارها، وضعت قطعة القماش على فوهة إبريق بلاستيكيّ، سكبت الماء، علّقت الديدان بقطة القماش، وأخذت تتلوّى، رفعت المرأة قطعة القماش عن الإبريق، ناولته للرجل الذي ينتظر.
أليس لديكم كوب؟ سأل الرجل.
إنه الكوب الوحيد هنا. ناولته المرأة كوباً نحاسياً سميكاً.
ملأ الرجل الكوب بالماء..
تفضل يا سيدنا..
قرب المختار فمه من الكأس، شمّ رائحة الماء..
أليس لديكم أفضل من هذا الماء؟
إنه الماء الذي نشربه دائماً. صاح ابن المرحوم من مكانه.
شرب المختار بعض الماء على مضض، ودفع الكأس..
هيا.. لننهِ الأمر الذي أتينا لأجله، قال المختار..
سكوت.. سيتكلّم المختار صاح الحاجب في الحاضرين..
سنبدأ الآن بتقسيم التركة حسب الشريعة، قال المختار، ثم شرق (مخطته) وأكمل:
كما جرت العادة للذكر مثل حظ الأنثيَيْن، وباعتبار أنّ عارف وزليخة هما الوريثان الشرعيّان الوحيدان لأبيهما، ستكون القسمة كما يلي:
ثلثا الدار لعارف، والثلث لزليخة، الأثاث ثلثاه لعارف، والثلث لزليخة، أما العصا.. وهنا قفز ابن المرحوم من مكانه ملوحاً بالعصا..
الذي يقترب مني سأسلخ جلده بهذه.
اخرس يا ولد.. (عصا تنزل على قفاك) صرخ به حاجب المختار، لكن الولد ظل يلوّح بالعصا فاتحاً عينيه على أقصى اتساع.
تابع المختار: العصا سنضمها إلى متحف القرية، إنها شيء تراثيّ يجب الحفاظ عليه.
سيدي.. سيدي.. ليس لدينا متحف في القرية، قاطعه الحاجب هامساً..
اخرس يا أحمق، أعرف ذلك، نهره المختار بصوت خفيض..
أمرك يا سيدي..
أما العنزة فسوف نولم عليها في اليوم الثالث من وفاة المرحوم، والبصل الأخضر سنضعه على المائدة بجانب اللحم والبرغل، ثم سأل: أليس في الكيسين حنطة؟
نعم.. نعم.. يا سيدي، أجاب الحاجب..
لا بأس يمكننا إبدالها بالبرغل من أحد فلاحينا، أما الدجاجة فنطبخها في أربعينية المرحوم.
والشعير يا سيد؟ سأل الحاجب.
الشعير نطعمه للعنزة والدجاجة قبل ذبحهما..
والصيصان يا سيدي؟ سأل الحاجب مرة أخرى..
الصيصان لي، أعطوني إياها، سأطعمها التفاح من بستاننا، صاح طفل صغير كان واقفاً عند باب الدار، وقفز راكضاً نحو القفص الصغير.
اخرس يا ولد.. الصيصان لا تأكل التفاح، نهره أحد حاشية المختار، وهو يشحطه من يده رامياً به خارج الدار..
الصيصان خذها لأولادك يلهون بها، قال المختار لحاجبه هامساً، ثم رفع صوته، والآن أنهينا القسمة حسب الشريعة والقانون، وباعتبار أن الوريثَيْن الشرعيَيْن للمرحوم قاصران، وليس لهما وصيّ، فسوف نضمهما مع إرثهما إلى دارنا حتى يصبحا في سن الرشد فنطلق لهما الحرية.
وقف الجميع بخشوع بينما راح المختار يمر أمامهم، يتبعه ذيل عباءته..
بكاء طفلين، تلويحة عصا، ثغاء عنزة صغيرة، وقوقة دجاجة في قفص، كان كل شيء يختفي في جَلَبَةِ الأصوات..

بقلم:

سكينة تقي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam