قصة اللقاء الأخير

قصة  اللقاء الأخير

من بعيد سمعها تهتف باسمه بأعلى صوتها، وتزرعه في الأسماء جميعاً، وكان يذوب خجلاً وحنيناً حتى ليكاد اسمه يتّسع له..
قبل أن يسقط المطر.. وبينما كان يضبّ حقائب سفره قال لها:
- لا يعيد الهواء الكلمات. إنّه يمتلئ بها فحسب، وحيثما ارتحلت حل الامتلاء..
هي تذكر كلماته جيداً. ولهذا عبّأت الهواء قصائد وأغنيات ورسائل، علها تضل إليه حيث لا تعرف طريقاً إلى عنوانه ولحظة غفا الهواء في صدر المساء كان التعب قد زحف إلى أوردتها، فعادت إلى غرفتها، ومن خزانة أسرارها أخرجت صورته، قبلتها بعينين ثملتين بالشوق..
كان شاباً بلون القمح وقد غطّى البيدر بضحكات الصبايا يحلو لها دائماً أن تناديه بأعلى صوتها لترى كيف يذوب الفرح في نهر عينيه..
من بعيد سمعها.. وكان الهواء ينثر صوتها نجوماً تغمز الأفق وتغازله فيأخذه الصوت إلى لقائهما الأخير..
ذات صباح حملت له رغيف خبز وفنجان قهوة، وحين وضعتهما أمامه ابتسم.. وابتسم.. ثم فرت من فمه ضحكة أدهشت عينيها فسألت:
- لماذا تضحك!؟
أجاب:
- لم أجد انسجاماً بين رغيف الخبز وفنجان القهوة.
فضحكت، وضعت يديها على كتفيه.. اقتربت منه أكثر.. وعندما لم يبق بينهما إلاّ مسافة الرغيف احتوت وجهه بيديها وقالت:
- أنت لن تحيا من دون الخبز.. وصباحاتك لا تغسل وجه النهار إلاّ برائحة القهوة.. إنّك رغيفي ورائحة صباحي.. وحيثما كنت ستراني هناك..
عبأ بندقيته قصائد ورحل..
ضمت الصورة إلى صدرها.. أغمضت عينيها واتكأت على كتف الشوق.. صادقت حلماً مرّ بخاطرها.. نهضت.. علقت صورته على الجدار.. أسرعت خلف سمعها:
- أقسم أنه هو.. نعم.. هو.. بقميصه المفتوح.. بعينيه الذكيتين وبسمته الكرنفال.. بخطواته المسرعة.. مر واضحاً اختفى من دون أن يلتفت لكن شيئاً ما بداخلها قال لها..
- أراك!
خرجت إلى الشّارع، فتشت عنه الأرصفة التي تعود أن يبحث عن نفسه فيها.. المحطات عندما يتعب.. المقاهي عندما يضيع من قدمه الطريق.. الحقل لحظة يغمره الحنين.. سألت عنه الفتاة التي أبكاها كثيراً والمرأة التي عذبته.. ثم عادت إلى نفسها..
لم تلتفت إلى مكانه على الجدار تحت الخريطة.. في الإطار الأسود الذي يضم أجمل ما فيه.. عينيه الذكيتين.. بسمته الكرنفال.. غير أنها ماتزال تسمع خطواته المسرعة..
من بعيد رآها.. انفتحت عيناه على اتساعهما.. فوجد الهواء يمتلئ بصوتها حتى الانفجار، وقبل أن ينفجر به الحنين إليها، احتمى بظل شجرة.. أغلق نوافذ سمعه، أرسل نظره في الأفق المنداح أمامه.. كانت أسرابٌ من الغربان تسرع محمومة.. نحو شجرته.. التصق بالشجرة.. صوّب بندقيته نحو أسراب الغربان.. تناثرت قصائده من البندقية شظايا.. اشتعل النهار في دمائه.. دوى صوت انفجار قوي.. ضم الشجرة إلى صدره.. أحس بها تنتفض.. علا وجيب قلبه.. علا.. وعلا كثيراً.. ثم خفق خفقة واحدة وسكن..
حين استيقظت الشمس رأت شجرة سنديان تعانق رغيف خبز وبندقية تفوح منها رائحة القهوة..

بقلم:

رياض محناية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam