قصة الشــاغر

 قصة  الشــاغر

كان محبطاً حين وضع سترته وخرج هارباً من المدينة والازدحام..
وفي الحقول التي تُحيط بالمدينة، استظل تحت شجرة وارفة.. ثم استلقى على ظهره، فيما الغيوم تركض لتشكّل أرخبيلاً ما فتئت تتجمّع لتشكّل لوحةً راح يقرؤها، وكأنّها علامات طالعه، ومع تفكيره وهاجسه بالعمل، ارتسمت الغيوم لوحة رائعةً لقراءة أفكاره. قال: (العمل.. العمل).
إلى متى سأظّل أقرض من أبي.. كان يقول لي: إقرأ تحصل، ومن طلب العُلا سهر الليالي، وسهرت الليالي وحصلت على الشهادة لكن حتى الآن بدون عمل.. إلى متى؟
امتدت غيمة كأنّها كف آدمي تُشير بسبابتها إليه، راحت أفكاره تغزو بتعرّجاتها غير أنّ قطعاً من الغيوم راحت تتراكض مشكّلة بمجموعها رقماً.. قرأه.. انبهر.. كان الرقم هو ذاته رقمه التأميني للحصول على الوظيفة.. هبَّ واقفاً، كاد أن ينسى سترته، غير أنّه حملها وراح يعدو نحو شاطئ الأمل.
مرَّ إلى البيت.. سألته أمه سؤالاً لم ينتبه جيداً، ومضى وهي تناديه.
يعدو مدفوعاً بالرقم الذي علق عليه آماله كونه ذات الرقم التأميني في بطاقة الترشيح للوظيفة، وصل مكتب العمل.. قفز الدرجات الصخرية، واحتكَّ جسده بالباب الخشبيّ الذي يكلّم الدهر، يافطة المدخل تحدّق إليه ساخرةً. كأنها عجوزٌ رقطاء لكثرة الصدأ الذي حولها إلى نقوش.
حين وصل إلى حيث اللوائح معلّقة، وجد اسمه في اللائحة.. فدخل إلى الموظّف المسؤول وحمل أوراقه، وخرج وهو يقبض على استمارته كأنه يقبض على مصيره. كان يبتسم، لقد فتحت أبواب الحياة.. ها هي بوابة الفولاذ قد فتحت، فأيّ خبر؟ أيّة بشرى سأقدمها لأمي..
سبقته روحه إلى البيت ووقفت أمام والدته أول راتب سأجلب لك هدية. آه يا أمي.. سأجعلك أميرة. وفتح الإضبارة وراح يقرأ:
الاسم... العنوان... الشهادة التي يحملها...
قرأها عشرات المرّات ليتأكد من أنّه خارج الأحلام.. وصل إلى آخر موقف للسيارة، ونزل.. رأى نفسه يركض.. يدخل البيت، يبحث عن أمه، تحول إلى طفل.. ها هو يجد ضالته.. أيّة فرحة.. الأرض، الغرف لم تعد تتسع لحركاته ورقصاته.
خرجت والدته من المطبخ وقالت:
- الله يعطينا خيرك.. ماذا أصابك؟
- توظفت..
واندفع يحتضن أمّه التي راحت تقبله مهنئةً.. وعند أقرب مكان الجلوس، تراخى وجلس، ومازالت أحلامه تسبق تلك اللحظة بعشرات السنين، وتراءت إليه السعادة على شكل حمامة طائر.
قال مكلماً ذاك الحلم الذي كثيراً ما فكر به.. غداً سيكون أول أيام الدوام.. سأعمل كما فعل جارنا.. حصل على بيت من البنك.. سأدفع أقساطه ولن أتأخر قسطاً واحداً. ولماذا أتأخر؟..
بعد ذلك سأذهب لأتقدم لخطبة ريم ابنة أبو محمد.. وسأدخل بيتهم وستقابلني بذات الإبتسامة، وسأقول لأبيها: هأنذا جهزت بيتاً ولي راتباً، وأنا على ما يرام ولا ينقصني سوى ابنة الحلال، التي أعيش وإيّاها تحت سقف واحد.
نعم.. هذا ما يجب أن يحصل، عندئذٍ أرتاح من تلك النظرات المختلسة التي تسرقها عيني من عينيها، وتسرق نظراتي وكأن ثمة آلاف الأميال بيننا..
آه متى سأضمها إلى صدري في رحلة الحب.
في الصباح أستيقظ نشيطاً مُعافى، نظّف أسنانه، لبس ثيابه وسرح شعره، ولم ينسَ أقلامه وودّع أمه متّجهاً إلى وظيفته، قاسماً بشرفه بينه وبين نفسه أنه سيعمل بجدٍّ وإخلاص.
وكان بين الفينة والفينة ينظر إلى ساعته قائلاً: (هكذا يجب أن أبدأ.. يجب ألاّ أتأخر، كم أَعْجَب من أولئك الذين يتغيبون.. الواحد منهم ينتظر طويلاً كي يحصل على العمل، وما إن يبدأ حتى يتغير..).
يدخل الدائرة، الفتيات يتضاحكن، يدخلن الغرف ويخرجن والمزاح هنا وهناك. وثمة إمرأة تركت الأوراق على طاولتها مكدسةً، وراحت تنظر في مرآة صغيرة أخرجتها من حقيبتها لتطمئن بأنها مازالت الأجمل. فيما رجلاً على الطاولة المجاورة أمسك جريدة، وراح يبحث عن الكلمات الضائعة.. سأله:
- بالله عليك لمن أقدّم هذه الأوراق.
رماه بنظرة من تحت نظارته ومدّ يده متناولاً الإضبارة.. بحث فيها وثمّة إبتسامة ساخرة خرجت من شفتين تقبضان على سيجارة مازالت تحترق. أشار له إلى غرفة مجاورة محاطة بالرخام.
فتقدّم وقرع الباب ثم فتح ليدخل، كان ذلك الرجل صغير الجسد يجلس على كرسيه الدوار، يتأرجح تارةً ويتمايل تارةً أخرى.
راحت عيناه تجوباه الغرفة، كان الرجل يمسك سيجاراً ويدندن أغنيةً لم أفهم كلماتها..
لم تكن إلاّ يده اليسرى ظاهرةً من وراء الطاولة، تقدم من اليد ببطء وقال:
- هذه الأوراق.
أدار كرسيه إلى وضعه الصحيح.. تنحنح ثم أخذ يتفحصه بنظرات الإزدراء، والإنزعاج بادٍ على هيئته.
- أيّة أوراق.
فتشها.. وأجاب بلهجةٍ فيها شيءٌ من السخرية:
- لا يوجد شاغر..
- لا يوجد شاغر!! وهذه الأوراق وهذا الختم.. وأمي.. وريم.. و.. و..
لكن الرجل وقف صارخاً: ألا تفهم لا يوجد شاغر..
- ورقم الترشيح المعلن في اللوائح؟
- ما هي إلاّ عبارة عن إحصائيّة لعدد العاطلين عن العمل.

بقلم:

سائر جهاد قاسم



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam