حكايات مقصوفة الرقبة

حكايات مقصوفة الرقبة


-1-

خرجَتْ مقصوفة الرقبة من البيت صباحاً متأبّطةً كعادتها علبة الرّسم الهندسية، المسطرة لقياس خطوتها، البيكار لرسم دوران التفاتتها، والمنقلة لتحديد سَمْـتِ ابتسامَتِها، فقد تعوَّدَتْ على الدّوام أن تحصل على الدرجة الأولى من هيئة القياسات والمواصفات المجتمعيّة، ولن ترضى بأقلّ من ذلك، كانَتْ دائماً تقول كلّ شيءٍ إلاَّ ما ترغب به، وتنظر إلى كلّ شيءٍ إلاَّ إلى ما تحبّ، وتحلم بما يريد الآخرون، وتشمخ برأسها عالياً وقد غمرتْها السعادةُ عندما يبايعُها الجميع فتاةً مثالية.
لكنّها عندما تزدرد سعادتها لم تكنْ تفهمُ لماذا تحسُّ بطعم المعدن في حلقها.

-2-


كانَتْ مقصوفة الرّقبة تكره جارها الذي يشمخُ عليها بقامته ويباهيها برجولته.
في مسابقةِ التوظيفِ المئةِ التي تقدّماها، التقيا عند لوحةِ الإعلانات، كانت النتائج كالعادة مخيّبةً لكليهما، ابتسمَتْ فجأةً عندما أحسَّتْ بأنّ قامته أخذت تقصرُ وتقصرُ حتى صار مساوياً لها تماماً في الطّول.

-3-


دخلَتْ مقصوفة الرقبة تحمل صينية القهوة، قدّمتها للعريس بارتباك، قاسها من رأسها حتى أخمص قدميها، وراز تفاصيلها بانتباه، ثم افترّت شفتاه عن ابتسامة استحسان، جلسَتْ تستمع إلى الحاضرين وهم يناقشون المهر ويساومون عليه، ويتشادّون حتى وصلوا إلى سعرٍ مناسب. ثمّ حصل العرس.
منذ ذلك اليوم صارت تحسّ بحميميّةٍ وأواصر قُربى كلّما لاح لها قميصٌ معلَّقٌ على واجهات العَرْض.

-4-


كرهَتْ مقصوفة الرقبة بطنها الذي كبر كثراً بعد سنواتٍ طويلٍ من الزواج فصار مثار سخرية زوجها، كانت تتكوّم على الكرسيّ بخجَلٍ وهو ينظر إليها عبر المرآة متباهياً بجسده الممشوق وهو يرتدي بدلته، ويعطّر نفسه، ويمسح على صلعته بحنان.

-5-


صرخت مقصوفة الرقبة في وجه أحد طلاّبها بعد أن أخرجها عن طورها، فردّ عليها ببرود:
- أوصاني أبي دائماًَ ألاَّ أردّ على بنت.
ذهلت في البداية لكنّها تمالكَتْ نفسَها وسألَتْه ساخرةً:
- وماذا يعملُ أبوك الجاهل؟!
أجاب بأنفة:
- أستاذ جامعيّ.

-6-


فتحت مقصوفة الرقبة قاموس اللّغة العربية لتبحث عن معنى كلمة (بنت) التي تكرهها بشدّة.
قرأَتْ: [بنت: جمع بنات، وتعني الولد الأنثى]
دهشت جداً عندما لم تجد في المعنى أثراً للشتيمة.

-7-


كلّفت مقصوفة الرقبة أن تحضر اجتماعاً دولياً يهتمّ بشؤون المرأة، طلب منها المكلّفون أن ترفع رأسها عالياً، وأن تدافع عن أنوثتها وتتمسّك بكرامتها وكبريائها لتبيّض وجه البلاد.
عند أبواب المطار أعادوها، فوليُّ أمرها لم يتكرّم بالموافقة على السّفر.

-8-


بعد مناقشاتٍ طويلة بين المسؤولين وزوج مقصوفة الرقبة، سمح لها أن تسافر لتحضر المؤتمر.
قبل سفرها وضعوا لها جبيرةً على رقبتها لأنّهم يريدونها شامخة عَزيزة.

-9-


تشاجرا، فتطوّر النّقاش بينهما، صفعها على وجهها، انهارت باكيةً، وصاحت في وجهه:
- ظالمٌ، قذر..
جحظتْ عيناه، تذكّر أنّه بنفس العبارة شتم ربَّ العمل الذي يعمل في مكتبه، والتاجر الذي اشترى منه، والرجل الذي صدمه بالسيارة ومشى دون اكتراث، والمسؤول في التلفاز.. و... و...و... نظر إليها بحنان، عانقها، وجلسا يبكيان معاً، فقد كان كلاهما مقصوفَيْ رقبة.



                        بقلم
              عبير كامل إسماعيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam