لحظات على أرصفَةِ العُمر

لحظات على أرصفة العمر



قصة قصيرة




اتّفقتُ مع نفسي بأنْ أُودِّعَ المكانَ، فالمكانُ كالإنسانِ، نألفُهُ ويألَفُنا بمرورِ الأيّامِ.
كنتُ في الطريقِ، حينما صادفتُ (زفَّةً فلسطينيةً) تعبرُ شارعاً في قلبِ مدينةِ عمَّانَ، توقَّفتُ لمتابعةِ لحظاتِ فرحٍ وبناءِ بيتٍ... تأمّلتُ وجوهَ العابرينَ أمامي... كانت وجوهاً فتيّةً، وجوهاً هرمةً، وجوهاً مبتسمةً، وأُخرى شاردةً... مجتمعةً لمباركةِ وضع لَبِنَةِ الأساسِ، لمملكةٍ صغيرةٍ ستكبرُ مع الأيّام... استمتعتُ بمشاهدةِ حلقةِ (الدبكة الفلسطينيّة الأردنيّة)، وتابعت مسيري بعد أن تركتُ أمنياتي بحياةٍ سعيدةٍ يكلِّلُها الحبُّ على مدارِ العمرِ للعروسَيْنِ.
عدّةُ أمتارٍ فقط، وإذْ بتجمّعٍ آخرَ... كانَ حادثَ سيرٍ، سيّارةٌ دهسَت امرأةً وولدَها. توقّفتُ لأرى ونبضاتُ قلبي تتسارعُ، كانتِ الأمُّ ملقاةً على الأرضِ بالكادِ أن تتحرّك، وهي تُحاولُ معرفةَ مصيرِ ابنها... لمْ أجرؤ على الالتفاتِ إلى حيثُ كان الفتى مرميّاً، فقد سمعتُ بأنّه ينزفُ وبلا حراكٍ... لا أستطيعُ رؤيةَ الدماءِ، فكيفَ إذا كانت لطفلٍ؟! بكلِّ تأكيدٍ سأكونُ الضحيّةَ الثالثةَ للحادثِ.
وقفتُ مشدوهةً أنتظرُ من بعيدٍ وصولَ سيّارةِ إسعافٍ من المشفى القريبِ جدّاً، لكنّها لم تأتِ، لأنّها كانت في مَهَمّةِ إنقاذٍ أُخرى. وفورَ أنْ سمعَ الناسُ بالأمرِ، هرعوا بسياراتهم محاولينَ مدَّ يدِ العونِ وملامح الغضبِ والقلقِ تعلو وجوهَهُم، وبمساعدةِ رجالِ الشّرطةِ تمّ حملُ المصابَيْن ونقلهما إلى المشفى.
فرغَ الشارعُ مِنَ الناسِ، وبقيتُ بمفردي، شاحبةً، لأترُك أُمنيتي بالشفاءِ العاجلِ لهما قبلَ المضيِّ من جديدٍ.
مشَيْتُ وأنا أُفكِّرُ، في كلِّ الوجوهُ التي التقيتُها، وأسبابِ التقائِي بهِا...
ياااه... لو ندري كم نحنُ بسطاء... وكم نحبُّ الحياةَ... لكن، بدونِ أن نعلمَ نقتلُ أنفُسَنا بها، ثم نسعى للبحثِ عن وميضِ فرحٍ.
رفعتُ رأسي لأُلقِيَ النظرةَ الأخيرةَ على المكانِ، على البيوتِ التي تسردُ الرواياتِ، لتؤلِّفَ في النهايةِ قصةَ عمَّان، نوافذُ حديثةٌ مزخرفةٌ، كانت جميلةً، لكنّها تحكي حكاياتٍ مؤلمةً، ونوافذُ مهشَّمةٌ، تروي حكاياتِ أفراحٍ ومكانٍ وشقاواتٍ بريئةٍ، منع الفقرُ من إصلاحِها، لكنّها تبتسمُ وتبتسم...
هذه كانت رحلةَ الوداعِ، صادفتُ فيها كلَّ الحياةِ ومعناها بوقتٍ قصيرٍ، فرحٌ، دموعٌ، حياةٌ، موتٌ، الماضي، والحاضِر...
تركتُ كلَّ هذا ومشَيْتُ إلى الغدِ وحيدةً، بدونِ أنْ ألتفتَ إلى الوراء!.

بقلم:

غادة حلايقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam