قالت لي المذراة..

قالت لي المذراة..

قالت لي المذراة: آهٍ.. يا لأَصابعي الخشبية كم تغلغلت في أكداس البيادر.. كم تعبتْ حتى فرزتِ الغثَّ من السَّمين..!
قلت: ما بالكِ تتأوَّهين.. أولَمْ تقومي بعملك هذا المنوطِ بكِ بمتعةٍ واهتمام؟!
قالت: أتعلمين؟ تُنتَخَبُ البذورُ الصالحةُ الخاليةُ من كلِّ فسادٍ.. تُبذرُ.. تتلقَّفُها الأرضُ وتحضُنَها بكل ما تزخر به من محبةٍ ودفءٍ وعطاء.. تمطرها السماء حباً ورحمةً.. تجتذبها الشمسُ للعلاءِ وتَهَبُها الأخضرَ فتموجُ تيَّاهةً به.. يهدهدها نسيمُ الربيعِ أيضاً بمحبة.. ثم تنثرُ الشمسُ عليها أريجَها الذّهبيَّ.. ثم..
قلتُ: أعلم سيرةَ حياةِ البذرة.. ما لَكِ قد ابتعدتِ عن الموضوع.. موضوعِ تعبِكِ وتأوهِكِ؟!
قالت: لكنَّ البعضَ لا يعلم.. على كلِّ حالٍ أُعيد عليكِ سيرة البذرةِ لأُرِيَكِ مدى المحبة والعطاء والدّفءِ والرحمة والإخلاص الّذينَ يُغدَقونَ عليها.. لقد وصلنا إلى موسمِ الحصادِ بعد أن تنثرَ الشمسُ أريجَ ذهبها على السنابلِ.. أليس كذلك؟!
واِنتظرتِ إجابتي فما أجبتُ.. فتابعت:

وبعد الحصاد تدرسها النَّوارِجُ وتُكدَّسُ على البيادر ليأتي دور أصابعي الخشبية.. فتتغلغلُ فيها.. وتُدهشُ كيفَ لبذرةٍ صالحةٍ أن تنجبَ بعضَ بذورٍ عجفاء.. وأقوم بدوري بدأبٍ وتفانٍ لأخلَّصَ البذورَ السليمةَ  المكتَنزةَ من أخواتها اللواتي ما استقبلن المحبّةَ والدفءَ والعطاءَ بقلوبٍ نقيةٍ..  وتزداد همَّتي كلما رأيت قشيشاتٍ مكسرةٍ - كانت تظنُّ نفسها ذهباً - تذهبُ أدراجَ الرِّياح.. وتملؤني السعادةُ فيعودُ النّشاطُ إلى أصابعي كلما تراكمتْ حبوبٌ ذهبيةٌ مكتنزة تفتح صدرها للعطاء الذي ينتظرها.. وبعدَ ذلكَ تستكثرين بي آهةً أو شكوى من تعبٍ هدّني على مرِّ المواسم؟!
قلتُ: أغبطكِ على قدرتكِ على فرزِ الغثِّ من السَّمين.. فأنا لم تتمكن أصابعُ فكري أن تميِّزَ بينَ غثٍّ وسمين بعد..!!

* من سلسلة قالت لي الأيّام.


بقلم:

إيمان نايل عبيد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam