مُنفَلِتَةً
من حصارِ الزمن خطوتُ برتابةٍ على رمال الشاطئ.. كنت قد صلبتُ عقربَيْ الساعة منذ
أيام.. سمَّرتهما بإحكامٍ كيلا يطاردا نبضي ويحصيا عليَّ أنفاسي..
كان
همِّي أن أَعبَّ هواءً نقياً بعيداً عن زحمةِ المدينة.. وأن أسير باتِّئادٍ لا
ينغِّصُه عليَّ أحدٌ.. لمحتُ شكلاً مُزَركشاً على بعدِ أمتارٍ وكأنَّهُ يحاولُ
التملُّصَ من الرَّملِ الذي استحوذَ على الجزءِ الأكبرِ منهُ..
وصلتُ
إليهِ.. خلَّصتهُ من مأزقهِ ونظَّفتُهُ من الذرات العالقةِ بهِ وأنا أديرهُ أمام
ناظريَّ معجبةً بهندسةِ النتوءاتِ التي تتحلزنُ فوق سطحهِ.. مبتهجةً بالألوان التي
تتدرجُ لمعاناً وقتامةً..
صفرت
القوقعة بصوتٍ خفيضٍ.. أدنيتُها من أُذني.. فأجابتني بصوتها المُتَمَوْسِقِ
المتألم: (كنتُ مسكناً آمناً لهُ.. كان يمكن أن ينتقلِ بي من مكان إلى آخر..
فنمتطي ظهرَ موجةٍ.. أو نتشمَّسَ على رملِ الشاطئ الحنون.. ما كان لهُ أن يؤذي
أحداً.. ما فكَّرَ بذلكَ أبداً.. وأنّى لهُ ذلك وهو تشكيلٌ رخوٌ لا حولَ لهُ ولا
قوة.. كان يفرحُ إذا ما انشدَّت العيون إلى مسكنهِ الجميلِ.. إليَّ أنا بألواني
وزركشاتي الناتئة.. كان يشعرُ عندها بأنّهُ سيملأُ سماءَ قوقعتهِ نجوماً
متراقصةً..)
قلتُ:
وأينَ هوَ الآن؟ أينَ فرحهُ ورقصهُ؟!
قالت:
لقد سلبوه فرحتهُ.. لقد سلبوني إيَّاهُ.. ما كان يخطرُ لنا يوماً أنَّ يداً ستمتدُ
بهذا الغدرِ.. كان ذلكَ المتعجرفُ يتمشى مع صغيرهِ على الشاطئ.. يحدّثُهُ ويعلّمهُ
كيفَ يمكنُ له أن يكونَ رجلاً.. كيفَ عليهِ أن يلغي كلَّ عاطفةٍ لا تعودُ عليهِ
بربحٍ.. كيف له أن يكون قاسياً جلفاً يصلُ إلى هدفهِ بأيِّ ثمنٍ ولو سارَ على
أشلاء ضحاياه.. لمحني الطفل.. خلَّصَ كفَّهُ من كفِّ أبيه الضخمة متجاهلاً حديثهُ
وانطلَقَ نحوي.. حملني بشغفِ الطفولةِ وبراءتها.. وصلَ الأبُ الغاضبُ من تجاهلِ
ابنهِ لدروسهِ الهامَّةِ.. نزعني من بين أصابعه الحانية.. صفعَهُ صارخاً: (كيفَ
يمكنك أن تحققَ المكاسبَ التي أغرسُها في صميمكَ؟.. أتسمحُ لمثلِ هذا الشيء
التافِهِ أن يقطعَ عليكَ مسارَ مشاريعك؟!..) بكى الصَّغيرُ مهتماً بأمري وحاول
استردادي.. سحبهُ الأبُ من شعرهِ وجرَّهُ حتى وصلَ بنا إلى (الشَّاليه).. صرخَ
طالباً الملحَ.. فوجئتُ بأربعةِ رجالٍ ينزرعونَ حولهُ يحملونَ أوعيةً مختلفةَ
الأحجامِ فيها ملحٌ.. تناولَ أكبرها.. صفعَ ابنه طالباً منهُ النظرَ والتأملَ
وحفظَ الدرس: (عليكَ أن تذيبَ كلَّ ما من شأنهِ أن يعطِّلَ عليكَ تحقيقَ
المكاسبِ.. انظر كيفَ سأنسفُ هذا الذي شغلكَ..!) ثمَّ قهقهَ لانتصارهِ العظيمِ
بعدَ أن نزفتُ بفعلِ الملحِ ما في جوفي.. ورماني بعنفٍ وقد وجَّهَ صفعةً أشدَّ من
سابقتها لذلكَ الوجهِ البريء.. لكم تألمتُ من أجلِ الصغير.. أما أنا فقد حنَّت
عليَّ الرّمال.. وجفَّفت الشمسُ نزفي.. وها أنا ذي أجدُ يداً تحملني برفقٍ.. وتحنو
على يأسي فأُسمعها شكواي..!!
قلتُ:
أَيَّتها القوقعةُ.. لكم نحتاجُ لأطنانٍ من الملحِ للتخلِّصِ من قلوبٍ ما عرفت
الرحمة والمحبَّةَ والجمال في يومٍ من
الأيام..!!
* من سلسلة:
قالت ليَ الأيّام
بقلم:
إيمان نايل عبيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق