بَلبَلَ صفحةَ أفكاري الهادئة خاطرٌ طارئٌ انبثقَ كالفطرِ بعد عاصفةٍ رعديةٍ..!
أجلْ..
أجملُ ما يمكنُ تقديمَهُ تعبيراً عن محبتي لطفلتي (الشَّابَّة) التي تتهيَّأ
للسفر.. هو الورد..!
واستقبلتني
الحديقة بفرحها الأخضرِ المطرَّزِ.. توجَّهتُ نحوَ شجيرةِ وردٍ أبيضَ تغمرُ
الورداتُ أغصانها كنبتةِ قطنٍ في موسمِ القطاف.. الأبيضُ نقاءٌ وحبٌ وانتظار..
ستحتفظُ غاليتي بورداتي في مغتربها.. ستعني لها الكثير.. الكثير..!
كنتُ
أَقترب من الوردِ بأفكاري وخطواتي وهو يبثُّني أريجاً هادئاً يحملُ الوداعةَ
والنَّقاء..
وصلتُ..
قررتُ قطفَ باقةٍ من البياض لا يخالطها سوى الأخضر.. دنوتُ.. أمسكتُ بيسرايَ عنقَ
أكثرِ الورداتِ تفتُّحاً ونضارةً لتكونَ محورَ باقتي المسافرة.. وسكينٌ حادةٌ
ألقَتْها يمنايَ على العنقِ المشرئبَّة.. سمعتُ أنيناً.. سمعتُ عويلاً من الورداتِ
الأخوات.. قال لي الوردُ بعتابٍ بل تقريعٍ: (كيفَ يمكنُ أن تكوني قاتلةً؟ كيفَ
يمكنكُ أن تقدِّمِي لغاليتِكِ قتيلاً يرافقُ أيَّامَ غربتها..؟!)
تسمَّرتُ
في مكاني.. أخذني ذهولٌ للحظات.. وصحوتُ على صوتي ينشجُ: (أستميحُ الوردَ إني ما
قصدتُ لَيَّ عنقهِ.. ما قصدتُ أن أُريقَ من دماهُ قطرةْ..) ولكني كنتُ قد فعلتُ..
قد قطعتُ عنقَ وردةٍ ما بخلَتْ عليَّ بعطرِها وفرحها وتراقُصِها بثوبها الأبيضِ
الأخَّاذ..!!
تلوَّت
الوردةُ في يدي.. تّمَلْمَلَتْ.. وبابتسامةِ شهيدٍ موقنٍ بانبعاثهِ حيَّاً على
مرِّ العصور.. غادرتْ يدي لترتمي فوق ترابها ترويهِ أنهارَ عطرٍ..!!
قالَ لي اليأس..
بعد
أن أنهى دقَّ أطنابِهِ على حدودِ نفسي.. أخذَ يتأملُ خيمتهُ بزَهوٍ واطمئنان
لإتقانِهِ عملَهُ.. ثمَّ أثَّثَها بالفرشِ اللازمِ.. وتمطَّى في صدرها مُتَّكئاً
على وسائدَ تغريهِ بالراحةِ التَّامة والإقامة الدائمة..!
أخذَ
يشيرُ لي.. يحثُّني للاقترابِ منهُ.. لم أفعلْ.. صرخَ بصوتٍ واثقٍ: (ألا تزورينَ
جارَكِ الجديدَ؟ ألا ترحِّبين بهِ؟ أينَ حقُّ الجوار؟!)
لاحظَ
أن ثباتي لم يتزعزع.. وأني لم أخطُ باتجاهه خطوةً واحدةً.. لاحظ أني راقبتُ مراحلَ عملهِ منذُ بدأ بدقِّ
أطنابهِ ولم يراودني خاطرُ الاقتراب منهُ أو سؤاله عمَّا يفعل أو لماذا أتى في مثل
هذا الوقت ليجاور نفسي المنهكة..؟!
كنتُ
أدري أن مجردَ الاهتمام لأمرهِ أو حتى السُّؤال سيدعُ لهُ مجالاً للحوارٍ الطويل..
وأنهُ سيستعملُ ألاعيبَهُ ودهاءهُ ليتمكَّن
ليس فقط من التربع على تخومِ نفسي.. بل من احتلالي احتلالاً كاملاً..
استنفرتُ
الإرادةَ والعزمَ والمثابرة أصدقائي الذِّين ما تخلَّوْا عنِّي أبداً.. فانبثقوا
كمخلوقاتٍ فضائيةٍ أحاطت نفسي وصوَّبُوا نظراتِهم المشعةَ نحو ذلك الذي ظنَّ
أنَّهُ سيطيلُ المكوثَ على حدودي.. ثمَّ التفتوا نحوي ودثَّروني بدفء صداقتهم..
تعانقنا من جديد.. وتنبهنا على صوتِ اقتلاع الأطناب.. فراقبنا ذلكَ المهزوم وهو
يطوي خيمتَهُ بما حوتْ ويحملها على منكبينِ هدَّهما الانتظارُ والثقلُ في آنٍ
معاً.. ويولِّي بانكسارٍ دونَ أن يجرؤَ على النَّظرِ نحوي وأصدقائي المخلصين..!!
* من سلسلة
قالت لي الأيّام
بقلم:
إيمان نايل عبيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق