أبو بكر مُحمّد بن يحيى بنُ زكريّا الرازي، عالمٌ فارسيّ ولد في مدينة الري الواقعة إلى الجنوب من طهران عام 864 م.
يُعتبر الرازي أحد عُلماء القرن الثالث للهجرة، عاش
متنقلاً بين مسقط رأسه ومدينة بغداد، حتى استقرّ به المقام في بغداد في نهاية
الأمر في زمن الخليفة العبّاسيّ عضد الدولة المُقتدر بالله جعفر بن المُعتضد.
كان للرازي العديد من الاهتمامات المتنوّعة، وكان أحد
الأطباء الّذين اختارهم عضد الدولة للعمل في مستشفى الري من بين أكثر من مئة طبيب،
حيث عمل كأحد رؤساء الأقسام فيها، ومن ثمّ أصبح رئيساً للأطباء لما تميّز به من
ذكاء ومهارة عالية.
اعتبره المؤرّخون من أعظم أطبّاء العصور الوسطى، فقد
تتلمذ على يد الطبري – مؤلّف أوّل موسوعة طبيّة عالميّة (فردوس الحِكمة) – إضافةً
لتعلّمه الفلسفة على يد البلخي، وقد أصبح مرجعاً مهمّا لطلاّب الطبّ وللحالات
المُستعصية، وأطلق عليه لقب (جالينوس العرب)، وقد كان يصرّ على طلبته إكمال البحث
والدراسات العُليا في الطبّ لإثراء هذا الميدان والنهوض به.
كان الرازي مُحبّاً للموسيقى، فعُرف عنه بأنّه كان
يُغنّي ويضرب على العود، إضافةً إلى أنّه كان ينظُمُ الشِّعر في صِغره. وقام
بتأليف كتاب (سرّ الأسرار) في الكيمياء، حيث اعتُبر مؤسّس عِلم الكيمياء في الشرق،
ويظهر في كتابه الّذي ألّفه في هذا الموضوع مجموعة من التجارب الكيميائيّة والمواد
الّتي استُخدمت فيها، والآلات أو الأدوات الّتي تمّ استخدامها لإجراء تلك التجارب،
إضافةً لشرحه آليّة تحضير كلّ مادّة، ونتائج التجارب.. وغيرها من المواضيع
المتعلّقة في هذا العلم، ومن الجدير بالذكر أنّ طُرق تحضير الرازي للأحماض مازالت
مُتّبعة حتّى يومنا هذا.
من أشهر كتب الرّازي وأعظمها كتاب (تاريخ الطبّ) الّذي
جمع فيه مجموعة مصنّفات إغريقيّة وعربيّة، وقد تُرجم كتابه هذا إلى اللّغة
اللاتينيّة عن طريق اليهوديّ الصقلّي (فرج بن سالم) عام 1279م، إضافةً للعديد من
الكتب والمؤلّفات الأُخرى في الطبّ وغيرها من العلوم، والّتي لا تقلّ أهميّةً عن
ما ذكرته آنفاً، مثل: (المنصوري في علم الطبّ)، (الحاوي في الطبّ)، (الجامِع)،
(المدخل إلى المنطِق)، (الأعصاب)، (هيئة العالم)، (طبقات الإبصار)، (الكيمياء
وأنّها إلى الصِحّةِ أقرب)، والعديد من المؤلّفات والكُتب الأُخرى.
درس الرازي الفلسفة الّتي اتّجه بها نحو منحى جديد، حيث
أنّه لم يجعلها تقتصر على تحصيل عِلم المنطق فحسب من خلال البحث في مسائِله
وقضاياه، بل إنّه نظر إلى هذا العلم من مفهومٍ عامّ امتدّ ليشمل كافّة العلوم
الّتي تقوّي المَلِكات وتُنشّط الذِهن، وتُعين الفرد على الإدراك والتصوّر، ويُصبح
أكثر قدرةً على التحليل والاستنتاج والتعليل والتفسير، ومن هنا فإنّ الفلسفة كانت
تعني للرازي المُشاركة في الحياة بشكلٍ فعّال، بدل الانطواء والانزواء بعيداً عن
المُجتمع والمُشاركة في حلّ قضاياه، ومن أشهر كتبه في هذا الصدد كتاب (الطبّ
الروحاني)، الّذي ذكر فيه:
"إنَّ البارئ إنّما أعطانا العقل وحبانا به، لننال ونبلُغ
به المنافع العاجلةَ والآجلة، غاية ما في جوهر مثلنا نيلَهُ وبلوغه، وإنّه أعظم
نِعَم الله عندنا، وأنفع الأشياء لنا، وأجداها علينا...".
لم ينكر الرّازي وجود الله في فلسفته الّتي تنقد
الأديان، بل إنّه ذكر بأنّ العقل هو هبةٌ من الله لنفكر ونرقى به، لكنّ آراءه
الجريئة النّاقدة للدّين، ورفضه لفكرة النبوّة، حوربت من قِبَل العديد من العلماء،
فقد قال الرّازي في هذا الشأن:
"من أين أوجبتُم أنَّ الله اختص قوماً بالنبوّة دون
قومٍ، وفضَّلهُم على النّاسِ وجعلهُم أدِلّةً لهُم وأحوج النّاسِ إليهم؟
من أين أجزتُم في حِكمة الحَكيم أن يختار لهُم ذلك،
ويُعلّي بعضهُم على بعض، ويؤكّد بينهُم العداوات ويُكثِر المُحاربات، ويهلك بذلك
النّاس؟".
وأضاف الرّازي مُعقباً على عدم تسامح المُتدينين من
موضوع نقد الدّين قائلاً:
"إن سُئِلَ أهلُ هذِه الدّعوى عن دليلٍ عَلى صِحّةِ
دعواهُم، استطاروا غضباً وهدروا دَمَ من يُطالِبهم بذلك، ونهوا عن النّظر وحرّضوا
على قتلِ مُخالفيهِم، فمِن أجلِ ذلِكَ اندَفنَ الحقّ أشدَّ اندفان، وانكَتَمَ
أشدَّ انكِتام".
لم يُنكِر الرازي في مسيرة حياته وجود الله أبداً، بل إنّ
لهُ كتاب أسماه (إنَّ للعبدِ خالِقاً)، لكنّ شروحاته الفكريّة ونظراته العقليّة
الفلسفيّة قادت الآخرين من أصحاب العقول والفكر المحدود إلى اتهامه بالزندقة
وتكفيره.
بقلم
غادة حلايقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق