ابن العوراء

ابن العوراء


أمقتها حدّ القرف... إحساسي بالكره والاشمئزاز منها يدفعني حدّ الجنون... كم أتمنى لو تختفي من حياتي وتموت اليوم قبل غدٍ... فأينما تواجدت أشعر بالحرج من وجودها، ومن شكلها بعين واحدة عوراء، يا إلهي.. كيف لمخلوقة كهذه، أن تكون أمي..؟؟

بهذه العبارات، لخّص ابن وحيد لأمه علاقته بها، ومشاعره تجاهها، فكثيراً ما تذّمر منها، وأبدى استياؤه من وجودها، ومن عملها كطبّاخةٍ، لتعيله بعد وفاة والده في المدرسة الدّاخلية التي ينتسب إليها، فكانت الأمّ والأب في آنٍ معاً لابنها، ثقلت عليها أرزاء الحياة، وكشّرت لها عن أنيابها إلّا أنّ أكثر ما كان ينهش لحمها في كلّ يومٍ، نظرات الحقد والكراهيّة والاستحياء منها، والتي كانت تُرمق بها من فلذة كبدها، وتلك العبارات القاسيّة التي يوجهها إليها متذمراً، كوجبة إجبارية يومية لا غنى عنها، حيث كان لا يوفّر مناسبةً إلّا ويذكّرها بأنّها عوراء، فلا صوابية لرأيها في نظره، فهي لا تفهم في أمور الدنيا، لأنّ رؤيتها للحياة ناقصة دوماً، لكونها بعينٍ واحدة، وكم حاول أن يرفع يده في وجهها، فعليها أن تلزم الصّمت في حضرته، أو تتوارى عن أنظاره.
ومضت السّنون على هذه الحال، وفي يوم من الأيّام تشاجر مع أحد زملائه في الدّراسة، ومن ضمن وابل الشّتائم والسّباب التي تراشق بها الشّابان، عبارة سخريةٍ، أطارت منه صوابه:
- من تحسب نفسك تكون؟؟ لست سوى ابن العوراء...
تمنّى حينها لو أنّه لم يولد، أو لو أنّه يستطيع أن يفتح قبر أمه، ويدفنها حيةً فيه بيديه، ليَخلُص من عارها. وكم من مرّة همّ بترك المنزل والابتعاد عنها، إلاّ أنّه لا يوجد حلّ بديل فما من يعيله غيرها.
كبر الابن وانكّب على الدّراسة، فتفوّق، وأنهى دراسته الجامعيّة، وحصل على فرصة للسفر خارج البلاد للعمل في شركة مرموقة، وسرعان ما تحسّنت أحواله وجنى الأموال، وعاد بعد أن امتلك منزلاً وسيّارة، وكان قد تزّوج وأنجب ولدين، وبعد انقطاعه عن أمه لسنوات عدّة، علمت بعودته مع عائلته، فاستدلت على مكان إقامته وذهبت لتزوره، متلهفة لرؤيته والتعرف على حفيديها، فما كان من الولدين، إلاّ أن رأياها من شرفة المنزل وهي تقرع الباب وقد أحنت السّنين ظهرها فأخذا يضحكان من شكلها، وحين فتح الباب ووجدها، طردها بحجّة أنّه لا يعرفها كما لا يريد لأولاده أن يروها فيخافوا منها، وصرخ في وجهها طالباً منها مغادرة المكان على وجه السّرعة، على ألاّ تعود إليه مرةّ أخرى، فكان ردّ الأمّ الشقيّة:
- اعذرني يا بني فأنا كما ترى بعين واحدة، وأظنني أخطأت في العنوان.
وغادرت، تجر وراءها أذيال المهانة والخيبة.
بعد عدّة أعوام، توفت الأمّ بعد صراعٍ مع المرض، فجاء أحد الجوار إلى ابنها ليعلمه بنبأ وفاتها، فسارع إلى بيتها ليقوم بإجراءات مراسم الدّفن، وقد تنفس الصعداء، فأخيراً ارتاح، وتحققت أمنيةٌ كثيراً ما تمنّاها.
وبعد الانتهاء من هذه المراسم راعه فضوله أن يفتح خزانتها القديمة ويرى ما الذي كانت تخبؤه في صندوق خشبي، كثيراً ما حاولت إخفاؤه عنه ليجد في الصندوق بعض الصور القديمة إحداها لامرأة جميلة تحمل صبياً، وأُخرى لذات الصبي ولكنه بعين واحدة، وبعض أوراق لفحوصاتٍ الطبيّةٍ، ومن ضمنها رسالة فتحها وقرأ الآتي:

"إلى ابن العوراء
ابني، يا قطعةً من روحي... رغم البعد والمسافات، لم أكفّ عن التفكير بك ولو للحظة واحدة، فمازلت تعيش في حنايا قلبي وتتسلّل بين ضلوعي، كم فرحت برؤيتك قد أصبحت رجلاً وقوراً وأباً لأولاد طالما كان حلمي في الحياة أن أحملهم بين ذراعي وأهدهد لهم كما حملتك في صغرك، أكرّر أسفي لك حين أحرجتك بزيارتي لك يوم لم أخطئ في عنوانك ونكرت معرفتك بي.
تحمّلت منك كل صنوف الإهانة في صباك، وصبرت على قسوتك، وفي كل مرّة كنت أنوي الردّ عليك فيها، كنت أدعو أن يُقطع لساني، وفي كل مرّة رفعت يدك في وجهي ونويت أن أصفعك، كنت أدعو أن تُشلّ يدي ولا تصيبك شوكة وردة، وأعلّل نفسي وكلّي أمل بأن تتغيّر مشاعرك يوماً اتجاهي، وما من جدوى، آن الأوان أن تعرف حقيقة العوراء...
حين كنت صغيراً تعرّضت لحادثٍ وفقدت على أثره عينك، فما كان مني إلّا أن أمنحك واحدةً من عينيَ لتكون كاملاً، فلا فائدة من عينيّ وأنت نورها، في أن أراك تكبر أمامي، وتعاني، ففضلّت أن تكون ابن العوراء، على أن تكون أنت... بذاتك الأعور.
أمك العوراء


بتصرّف:

ميرنا قره


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

INSTAGRAM FEED

@gh330kam