هدى يوسف حنا، أديبة وقاصة وروائية، ومربية ومترجمة، ومناضلة فلسطينية نشيطة وجريئة وعنيدة... ولدت في قرية (الرامة) بمنطقة عكا بفلسطين المحتلة عام 1922، وتلقت دراستها الابتدائية والإعدادية والثانوية فيها. انتسبت إلى دار المعلمات في القدس، وحصلت منها على شهادة أهلية التعليم الابتدائي، ثم درست الحقوق بالمراسلة في جامعة لندن.
بدأت
رحلتها النضالية بعد أن أكرهها اليهود على مغادرة فلسطين عام 1948 إلى سورية،
فالتحقت بوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التي أوفدتها إلى القاهرة للتخصص في
الشؤون الاجتماعية، وبعد إنهاء دراستها عملت في مخيمات اللاجئين المنتشرة في
محافظات حلب واللاذقية ودرعا والقنيطرة، على مدى أربعة عشر عاماً، كما عملت في
التدريس والإدارة تسعة عشر عاماً في فلسطين والعراق وسورية، أكثرها في مدارس وكالة
غوث اللاجئين... ولما أحيلت إلى التقاعد عام 1982 عملت في الترجمة عن اللغة
الإنكليزية، فترجمت مقالات وروايات وقصصاً وأفلاماً ومسلسلات تلفزيونية كثيرة.
حين
أقامت في القنيطرة أنشأت مع زميلة لها جمعية نسائية، وقامت بأنشطة أدبية، وإلقاء
محاضرات توجيهية لتوعية المرأة، وتنبيهها إلى الخطر المحدق بالوطن العربي، كما
هيأت من عضوات الجمعية عدداً من المتطوعات للقيام بالإسعافات الأولية عند الضرورة.
انتخبت
عضواً في الاتحاد العام النسائي، وتسلّمت رئاسة فرع القنيطرة في دمشق، بعد احتلال
إسرائيل للقنيطرة، وظلت في هذا المنصب ثلاث سنوات، أنشأت خلالها عدداً من المراكز
لمحو الأمية في القرى الأمامية، وتعليم حياكة السجاد على الأنوال، كما أنشأت في
دمشق مركزاً لتعليم الخياطة للنازحات من القنيطرة، ومركزاً آخر لخياطة الثياب،
وحضانة لأطفال النساء العاملات.
شاركت
في عدد من مؤتمرات الاتحادات العالمية النسائية في برلين وبوخارست، وقدمت في كل
مؤتمر شرحاً مفصلاً عن القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب الأولى، وكان عدد
الدول التي شاركت في مؤتمر بوخارست سبعاً وتسعين دولة، كما شاركت في جميع مؤتمرات
العاملين في ميدان الشؤون الاجتماعية في وكالة الغوث في برمانا (لبنان) ودمشق
وعمان (الأردن)... وفي المهرجان الذي أقيم على هامش معرض الكتاب الدولي في مدينة
فرانكفورت بألمانيا عام 2004، حيث ألقت كلمة مفصلة عن قضية فلسطين، تُرجمت مباشرة
إلى الألمانية، ولاقت صدى عميقاً وتجاوباً مطلقاً في نفوس الحاضرين من عرب وألمان،
كانوا مضللين بالدعاية الصهيونية المغرضة عن حقيقة ما يجري في فلسطين المحتلة.
كُرّمت
أكثر من مرة في مقر مجلة (الهدف) بمخيم اليرموك، وفي (مركز المرأة) بمخيم جرمانا
بمناسبة يوم المرأة العالمي، وفي مركز الشهيد (ماجد أبو شرار) بمخيم اليرموك
أيضاً... وهي عضو في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ومحاضِرة نشيطة في
المجالات الثقافية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وقد ألقت عدداً كبيراً من
المحاضرات الأدبية والتثقيفية في النوادي والمراكز الثقافية العربية في دمشق،
يتعلق معظمها بقضية فلسطين التي هي شغلها الشاغل وهمها الدائم.
آثارها الأدبية
1- صوت الملاجئ – رسائل أدبية عن النكبة
– دمشق 1951 (خمس طبعات).
2- عائد من البعيد – رواية – مطبعة
اليازجي – دمشق 2002.
3- أريد أن أموت في فلسطين – مجموعة
قصصية – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2005.
صوت الملاجئ
كان
(صوت الملاجئ) أول كتاب أصدرته الأديبة هدى حنا عام 1951، وقد لاقى الكتاب رواجاً
شديداً، فطبع خمس طبعات أخرى بين عامي 2000 و 2004 نظراً لأهميته، ووزع مجاناً على
أكثر الجهات الرسمية والخاصة وطلاب المدارس والجامعات... وكان هدف هدى حنا من
تأليفه توثيق المرحلة التي عاشتها وعاشها شعبها الفلسطيني في المخيمات بصدق. إنه
ومضات صادقة، ووصف دقيق، يرقى إلى الحقيقة الكاملة لحالات البؤس التي عاناها
الفلسطينيون إثر نكبة عام 1948، وما قاسوه على أيدي اليهود من ظلم وقهر وترويع
ونفي وتشريد وقتل وتجويع...
هو
كناية عن مشاهدات شخصية صاغتها في عشر رسائل، لكي تبقى في الذاكرة الوطنية
والقومية عامة، وذاكرة الأجيال العربية خاصة، كشاهد على همجية الصهاينة ودمويتهم،
وفقدانهم لكل إحساس أخلاقي أو إنساني... ولكي تذكّر من نسوا فلسطين بما حدث
لأبنائها وأهلها المسالمين.
لقد
كانت الأديبة هدى حنا – كما يقول نصر شمالي في مقدمة الكتاب: "من أوائل الذين
سجلوا انطباعاتهم عن جريمة العصر الأوروبي – الأميركي في القرن العشرين، لكنها
كانت في الحقيقة السيدة الفلسطينية التي تكتب في هذا المجال، وهي وإن سجلت
انطباعاتها عن الملاجئ بأسلوب أدبي مجازي مستمد من الواقع المعيش والمشاهدة
المباشرة، فإنها أعطتنا من خلال هذا التسجيل البسيط آراء عميقة وصائبة عن النكبة
في أسبابها وأبعادها الخاصة والعامة، وعن الفاعل الحقيقي الدولي الذي مازال يحاول
إبادة شعبنا الفلسطيني، ويمارس التعذيب بجميع ألوانه ضد أمتنا العربية في جميع
أقطارها".
تقول
في الرسالة الأولى مناجية فلسطين التي غادرتها على عجل، تاركة فيها أمها وذكريات
طفولتها، وشجرة اللوز والبستان والدار: "إيه يا فلسطين عفوك ورحماك، يكاد
الصبر منا يموت في القلوب والصبر يتحطم على صخرة اليأس، فإلامَ القسوة وما عرفنا
فيكِ غير العطف والحنان؟ أما يزال العدو يوغر علينا صدرك فيتهمنا بالجحود؟ إيه
أيتها الحبيبة التي ما أحب الفؤاد مثلك سواك، لا وحقِكِ ما عقوق أن عنك بعدنا، وما
فرار أن منك خرجنا، وإن كنا أخذنا على غِرَّة ورأينا أنفسنا تُذبح ذبح الشياه،
آثرنا الاحتفاظ لك ببقية، وأيقنا أنه لن يرضيك أن تذهب دماؤنا هدراً وقد تآمر
علينا المتآمرون، وجعلوا منّا كبش فداء، فوجدنا أنه من الجبن أن نموت، ونحن لا
نستطيع أن نرد عنك كيداً...".
أريد أن أموت في فلسطين
ضمت
هذه المجموعة القصصية ثماني قصص هي: من الذاكرة ولكني أحببت فلسطين أكثر، أريد أن
أموت في فلسطين، من ذاكرة النكبة – زينب، قلق وهواجس، من ذاكرة النكبة – الرسالة،
جهاد يواصل الرحيل، أنا وأم حسن، اللقاء المر...
سأتوقف
عند القصة الأولى التي عاشت أحداثها شخصياً في جزيرة (لاس بالماس) كبرى جزر
الكناري التي يعيش فيها ابنها الوحيد (يعرب) حين كانت في زيارته، حيث التقت سيدة
على شاطئ البحر لا تعرفها من قبل، تصرخ بأعلى صوتها قائلة: "لقد ضاع آخر
متنفس لي، ضاعت مني رسالة ولدي، أخذتها الريح ومضت، كما ضاع مني ولدي، أخذته
أميركا..". وبعد أن تتحدّث إليها تعرف أنها فلسطينية مثلها، تشردت بعد نكبة
1948 إلى أن حطّت رحالها في إسبانيا مع ابنها (حسان) الذي تعرّف بفتاة إسبانية
سمراء بقصد الزواج.. لكن حسان يفارق أمه وخطيبته مدّعياً أنه مسافر إلى أميركا
بقصد كسب رزقه وتحسين أحواله المادية، وأنه سيعود، وفعلاً ودعهما على شاطئ البحر
والدموع تنهمر من أعينهما قائلاً: "لا تخشي يا أمي سأعود، وأنت يا سمراء
انتظريني"، لكنه لم يفِ بوعده، ولم يكتب لهما بعد سفره إلاّ رسالة واحدة،
طمأنهما فيها عن وصوله، رغم مضي خمسة وعشرين عاماً على سفره.
ثم
تستغرق المرأتان الفلسطينيتان في الحديث وسرد الذكريات عن وطنهما، وتحكي أم حسان
كيف حملت ابنها بين ذراعيها عند النزوح، وسارت بين جثث القتلى وهي تودع بلدتها
(الطيرة)، بعد أن تواطأ المستعمر الإنكليزي مع اليهود القادمين إلى فلسطين من شتى
أقطار العالم بغية الاستيطان.
وبعد
أن تنهي هدى زيارتها إلى (لاس بالماس) وتعود إلى عملها في القنيطرة، قبل أن تقع
بين فكي العدو الصهيوني ببضع سنوات، تفاجأ برجل قادم لزيارتها في يوم ثلجي عاصف
يدعى (مجاهد)، هرب من سجون الأرض المحتلة، وأخذ يبكي أمامها من شدة القهر والعذاب،
وبعد أن استراح قليلاً سلمها رسالة حملها من (حسان) الذي لم يسافر إلى أميركا، كما
أوهم أمه وخطيبته، بل إلى فلسطين ليجاهد فيها ويقوم بواجبه في الدفاع عنها... وبعد
أن فتحت الرسالة قرأت فيها: "سامحيني يا أمي لأني تركتك وحيدة، ولتسامحني
سمراء أيضاً. أنا لم أذهب إلى أميركا كما قلت لك، بل إلى فلسطين بلادي لأقوم
بواجبي نحو وطني، ولا تنسي أنك أنت التي ربيتني على حب الوطن. كم أحببتك يا أمي
وما أزال، لم تغيبي لحظة عن خاطري، ولكني يا أمي أحببت فلسطين أكثر...!".
استمدت
هدى حنا هذه القصة من صميم الواقع، وروتها بضمير المتكلم لتكون أكثر صدقاً، وتدور
أحداثها كما رأينا حول تعلق الشعب الفلسطيني أينما كان بوطنه السليب، ولا سيما
الشباب، رغم أنهم من الجيل الذي ولد خارج فلسطين.
إنها
قصة هادفة وذات مضمون توجيهي، عرفت الكاتبة كيف تتقن حبكتها، وتمنحها الكثير من
التشويق وحبس الأنفاس، وتكمن العقدة في ظن أم حسان أن ابنها سافر إلى أميركا للعمل
في حين أنه توجه إلى فلسطين ليقوم بواجبه في الدفاع عنها.
لغة
القصة سهلة وبسيطة وواضحة، والسرد طبيعي ليس في تكلف أو حشو أو استطراد أو وعظ،
ويمكن أن نعتبر هذه القصة نموذجاً لقصصها السبع الباقية، من حيث أنها تستقي كلها
من نبع واحد، وتصب في بحر واحد هو فلسطين عشقها الأبدي.
في
الصياغة جمال وشفافية وأناقة وعفوية، وعناية بالجزئيات الصغيرة، كما في وصفها لـ
(سمراء) خطيبة حسان حيث قالت: "وقفت أمامنا وهي تلهف، كانت سمراء الوجه، وشى
سمارها الشحوب، وفي عينيها السوداوين الواسعتين يتمشى حزن عميق، طويلة القامة،
نحيلة، ربما كانت في الخامسة والأربعين أو تجاوزت ذلك بقليل...".
وبعد...
فقد كان هدف الأديبة هدى حنا من كتاباتها القصصية والروائية واضحاً ومعلناً، ألا
وهو الدفاع عن الشعب الفلسطيني المشرد والمقهور، وبث روح الحماسة فيه، وإبقاء جذوة
نضاله مشتعلة حتى عودة فلسطين إلى أهلها، وإيصال صوت قضيتها المزمنة إلى مسامع
العالم... وأعجب كيف لم تفتر عزيمتها أو تلن قناتها، رغم بلوغها السادسة
والثمانين، فهي لا تزال تكتب وتؤلف وتحاضر كأنها شابة في مقتبل العمر.
بقلم:
عيسى فتوح
ؤ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق