أوشك النهار أن ينقضي، وبدأ ضياؤه يختفي بين أخاديد الظلام وأنا أسير حثيث
الخطى تختلج بقلبي هواجس شتى.
عشرة
أعوام مرّت وأنا بعيد عن أهلي أعيش في سجن تكفيراً عما ارتكبته يداي، وتزغرد
الفرحة في قلبي حيناً ويعتصره الحزن حيناً آخر حينما بدا لي السقف القرميدي النقطة
المميزة في حيّنا.
وما
أن اقتربت قليلاً حتى لاح لي بيتنا المطلي باللون الأصفر وبدت بجدرانه قروح بيضاء
مثل الشعيرات التي بدأت تزحف إلى رأسي.
وصلت
البيت وإذ بجمهرة الأهل والأصدقاء يتلقوني بالقبل، لم أدر ما أقول ولم أكن إلاّ
كآلة تدفع بنفسها هذه الكتل البشريّة لتأخذ مكاناً، وعلت زغاريد النساء كأني مولود
جديد جئت إلى هذه الدنيا، فرحت كثيراً لهذه الفكرة التي طرأت عليّ، ليتني كنت
طفلاً صغيراً فتبتعد عني أشباح الماضي؟
دلفت
إلى الغرفة وألقيت بجسدي المنهك على الأريكة وازداد التفكير بعقلي الباطني وبدأت
الذكريات تزحف مثل جنود الشرّ لتحتل مخيلتي وترسم أمامها شريطاً يفقدني جمال
طفولتي الجديدة.
كانت
تسكن أسرة صديقة بجوارنا لها ابنة في الثانية والعشرين من عمرها وبالرغم من الصداقة
الشديدة بين الأسرتين وكثرة الاتصالات لم تشعر الفتاة نحوي بأية عاطفة، وأنا الذي
كنت أود لو أشتريها بكنوز الأرض جميعها، كانت على عكس ما أشتهي، تنفر دائماً من
صحبتي ومجالستي وتتمنى من قلبها لو أبعدتني الظروف عنها.
قررت
الزواج منها مهما لقيت في سبيلها من عقبات، ربما فكرت بهذا الزواج حباً بالانتقام
منها أو لحبي الشديد لها الذي ولد منذ أيام الطفولة.. وبدأت أظهر لأهلي وأهلها
الصراحة ما أكنه لها من حب وأني بانتظارها لتفرغ من دراستها فأتقدم لطلب يدها..
فرحت
بالنصر، فرحي بحبي وعلّقت آمالاً كباراً على هذا الزواج، لا شك أنها ستسعد كثيراً
إذ عقاراتي وأعمالي تؤمن لها كل ما تريد..
وبالرغم
من الفترة التي مرّت على زواجنا لم يسُد بيننا التفاهم.. وكانت دائماً تصرخ بوجهي:
"سأحطم قيدي بيدي"..
أنجبت
لي طفلة ومن جديد بدأ يلوح لي أمل جديد لابد لحنان الأمومة أن يعيد لها شيئاً من
الاستقرار في بيتي.. ولكن لم أسمع سوى الأقاويل تحيط بي والألسن تتطاول وأنا أريد
ألاّ أصدق...
كنت
أعود من عملي لأرى أصدقائها... دائماً أصدقاء..
وذات
يوم عدت إلى البيت فكانت رائحة المشروب تطوف بأرجائه كرائحة البخور في هياكل
الآلهة.
دخلت
إلى الغرفة ووقفت طويلاً.. وفجأة صرخت بأعلى صوتي، اخرجوا.. اخرجوا.. جميعاً..
وخرج الجميع ترتسم على شفاههم ابتسامة يخالطها الحزن والسخرية، لقد قررت قتلها
لأتخلص منها.. ونظرت إليها وهي تسير نحو غرفتها واندفعت نحوها بجنون ورأيت لآخر
مرّة الجسد الرائع والقوام الجميل والشعر المنسدل على الكتفين العاريتين كأنها
تمثال قلّبته العواطف.. وصرخت.. ماتت.. قتلتها..
وأردت
أن أصرخ أكثر وأن أحطم كل شيء، ولم أشعر إلاّ وأنا أسير نحو سجني.. مرّ هذا الشريط
وأنا مثل نائم..
استيقظت
على صوت يدغدغ أحاسيسي صوت لا تخطئه أذني هذا الصوت العذب الذي يذكرني بكل ما مضى
من العمر إنه صوتها..
وقفزت
إلى الردهة الخارجية وكدت أصطدم بها، نعم هي نسخة عنها.. صوتها.. قوامها.. كل ما
فيها.. ابنتنا "ناهد"..
تلاقت
العيون، وحارت الكلمات على الشفاه ومضت لحظات وامتدت الأيدي وطغت على النسخة الصغيرة
رغبة جارفة لتطويق عنقي وتقبيلي ولكنني لم أستطع تقبيلها.. فربما لا يربطني بها
الحنان الأبوي..؟
بقلم:
الياس
لازار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق