إنسان العصر الحجري القديم الهومواركتوس

إنسان العصر الحجري القديم   الهومواركتوس


المقدّمة:
لقد مرّت ملايين من الأعوام، كانت فيها الحياة معدومة على الأرض، ثم نشأت في المحيطات (الخلية الحية الأولى) تبعها ظهور النباتات البحرية، ثم الحيوانات اللافقارية البحرية، ثم النباتات والحيوانات الفقارية البرية، التي تفرّع منها (الثدييات) وأحد فروعها الرئيسات، التي انتشرت على مساحة كبيرة من العالم.



لمحة عن ظهور الإنسان:
ومنها في الحقب الجيولوجي الثالث أسلاف الإنسان، التي بدورها تطوّرت نحو الإنسان نفسه، الذي يعرف فيزيولوجياً وحضارياً بأنه (كائن ذو قامة منتصبة)، له دماغ كبير الحجم ومتطوّر، يمكنه من القيام بالعمليات الذهنية المعقدة للتكيف مع وسطه من خلال الاختراع الواعي والمقصود للأدوات والأسلحة، التي ساعدته على تأمين غذائه وأمنه، والاستمرار في البقاء وسط الظروف المختلفة.


مراحل تطوّر الإنسان:
ظهر النوع البشري (الإنسان) بحسب الأبحاث الباليوثولوجيّة والآثاريّة منذ بداية الحقب الجيولوجي الرابع (الرباعي) في زمن يعود إلى أكثر من ثلاثة ملايين عام مضى. وكان من النوع البدائي، تلته أنواع تتدرج في تطوّرها الفيزيولوجي والحضاري، وهي بحسب القدم:
- الاسترالوبيتك (الإنسان الأوّل): عثر عليه حوالي 5.000.000 عام قبل الميلاد.
- الهومواركتوس (الإنسان المنتصب القامة): ظهر في حوالي 1.000.000 عام قبل الميلاد.
- إنسان نياندرتال: تعود أقدم هياكله إلى 100.000 عام قبل الميلاد.
- الهوموسابيانس (الإنسان العاقل): يعود إلى حوالي 3.500 عام قبل الميلاد. ويعتبر الجدّ المبكر لإنساننا الحالي.
أصبح بإمكاننا رسم إطار عام لحياة الإنسان القديم في العصور الباليوليثية. ولئن كان من الصعب تحديد البنية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمعات تلك العصور بشكل دقيق إلا أن الخطوط الرئيسية بدأت تتجمع لدينا من خلال تجميع كافة المعطيات التي تقدِّمها لنا مختلف العلوم.


حياة الهومواركتوس وغذاءه:
لقد عاش إنسان الباليوليثي paléolithique (أي العصر الحجري القديم) الأدنى، الموسوم بـ"الإنسان المنتصب القامة" Homo erectus الذي يُعدّ أكثر تطوّراً من الإنسان الصانع أو (القرد) الذي كان يقتات على الموارد الطبيعية المتوفرة في مناطق وجوده، كالنباتات البرية التي كان يجمعها غالباً بيديه، واصطاد مختلف أنواع الحيوانات، ومن بينها الفيل والماموث وحيوانات أخرى كبيرة.
ومع الزمن، طوَّر هذا الصياد أدواتِه وتقنياتِه حتى تمكن من قتل حيوانات شرسة، كالحصان البري ودب المغائر وحمار الوحش. حتّى أنّه أخذ يهاجم القطعان وينصب لها الفخاخ ويحاصرها. وتعلم شيئاً فشيئاً سلخ جلود الحيوانات وكشطها وتنظيفها، وشيَّ الطعام، واستخدام العظام إلى جانب الحجارة والخشب في صنع أدواته.


تفاعله مع محيطه وتكيّفه:
كانت النقلة الكبيرة التي قام بها تتمثل في تخليه عن الكهوف وعن الملاجئ وفي تحرره من خوفه من العراء خلال الباليوليثي الأوسط والأعلى؛ فبنى أكواخه من الحجارة والأغصان والجلود في مناطق مكشوفة قرب الأنهار أو في المواقع التي تكثر فيها الطرائد والنباتات البرية.
استهلك الهومواركتوس من موارد الطبيعة الحرّة ولم يشعر برغبة في التملّك الخاص بل كانت إحدى مغاور الهومواركتوس خيراتها مشاعيّة فكان بعيداً عن متاهات تجميع الثروة وصراعات بين الغني والفقير.
إننا لا نستطيع المرور بسهولة وببساطة على هذه العصور الطويلة دون أن نقف ونتأمل هذا التطور البطيء، وانعكاساته الاجتماعية والروحية، والمراحل الطويلة والغنية التي استغرقت الإنسان حتى بلغ عتبة مرحلة جديدة. ومع أننا لا نستطيع إيجاز هذه التطورات البطيئة التي حدثت قبل عشرات آلاف السنين – ومجرد استعراضها يتطلب العديد من المجلدات – لكننا نستطيع التأكيد على الجانب الداخلي لها.
كان هذا الهومواركتوس، الذي يتأهب للانتقال إلى مرحلة الباليوليثي الأعلى، يراكِم خبرات أسلافه البسيطة والمتواضعة، إنما العظيمة الأهمية بالنسبة له، لكي يضيف إليها شيئاً بسيطاً وجديداً. كان، مثلاً، قد تعلَّم نحت الصوان بأسلوب معين؛ لكن هوذا يتعلَّم كيف يصقل هذا الحجر ويشذِّبه، فتصير الأداة أكثر فاعلية ومرونة بين يديه. بل إنه كان في كثير من الأحيان يطوِّر أسلوب النحت أو الأداة نفسها، أو يغير المادة الخام، فإذا به ينتج أداة ذات مواصفات جديدة. وكانت هذه الإضافة المبدعة تتراكم، بدورها، لتشكل مع غيرها نسيجاً تحوكه خيوطٌ غزلتْها التجاربُ الكثيرة الكثيرة، وجَدَلَتْها تلمُّسات واختبارات على مرِّ العصور لا تحصى. ولم يكن هذا الإنسان، الذي عاش في ظروف صعبة، ليفكر في مستقبله البعيد، أو في ابتكار أشياء جديدة كل الجدَّة. فكلما كان ينجزه كان وليد تماسه المباشر مع الطبيعة وتجربته المتواصلة.
إلا أنه لم يكن ليستطيع بعد تأمل الجمال الوحشي للطبيعة، أو الاستمتاع بالهدوء وبالسكون في أثناء راحته، ليلاحظ الظواهر المتعددة من حوله. بل لعله كان قادراً على ذلك؛ إلا أن مشاغله كانت كثيرة دائمة.
كان قلقاً لسبب يجهله، وكان قلقه هذا يحفزه للعمل باستمرار. كانت غريزته الطاغية – هذه الغريزة التي كانت تتمخض عن ثمرة جديدة تحمل بذور العاطفة والشعور والإدراك – تنهاه عن الاستسلام وعن التقاعس عن الاستمرار. إن غريزة البقاء التي كانت تدفعه دوماً إلى الأمام كانت تهبه، في المقابل، سروراً غامضاً عندما كان يتغلب على صعوبة ما تصادفه. ونحن لا نعرف بالضبط كيف كانت تتفاعل في داخله الأحداثُ الخارجية، إلا أنه كان قطعاً يشعر بها بطريقة ما، غير أنه لم يكن يعرف كيف يعبِّر عنها.


تواصله مع أقرانه:
مسألة التعبير هذه بالذات هي المنعطف الأساسي الذي كان على الإنسان دائماً أن يعبره كلما حانت مرحلة تطورية جديدة. ولعل الحركات والأصوات كانت أولى تعبيراته وأهمها. لكننا لا نعرف عنها شيئاً حتّى هذا اليوم. وعلى الرغم من صعوبة التأكد من مدى تطور لغات الجماعات القديمة، التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها عشرين شخصاً أو أقل أحياناً، فإن ثمة دلائل لدينا تشير إلى أن هذه الجماعات كانت تتكلم لغات أو لهجات صوتية كافية للتخاطب فيما بينها ولتبادل المعلومات. لكننا نشك بالطبع في أن تكون تلك اللغات قد بلغت مرحلة تغطي معها كافة الأمور المراد التعبير عنها في الحياة اليومية– هذا دون الإشارة إلى المفردات التي كانت تنقصها للتعبير عن المجرَّدات أو عن العواطف. إن إنجازات، كاللغة والفن والطقوس والمعتقدات وصناعة الأدوات، ما كانت لتتحقق خلال فترة بسيطة، بل كان يلزمها فعلاً هذا الاتساع الزمني لتنضج؛ وكان عامل الزمن هذا كفيلاً بالطبع بتحقيق التوازن المطلوب على كافة الأصعدة وخلال كافة المراحل.
وبشكل أعم، نستطيع أن نخلص إلى نتيجتين أساسيتين:
أ- إن كافة إبداعات وإنجازات الإنسان الموغلة في القدم ذات طابع جماعي وكلّي.
ب- إن دور العقل في جوهره دورٌ جماعي يرتكز على استيعاب وعلى هضم الفعل الجماعي في الفرد.
غير أن تفتح الطاقة العقلية منذ الألف الثالث ق.م أبرز دوراً جديداً للعقل، دوراً فرديَّ الطابع بشكل أساسي.


أماكن عثورنا على الهومواركتوس:
وقد عثر على عظامه لأوّل مرّة في حوض نهر سولو (Solo) في جزيرة جاوا، منذ 1891 على يد الطبيب الهولندي أوجين دوبوا (E. Dubois) الذي أطلق عليها في حينها البيتكانتروب أي الإنسان القرد (Pithecanthropus) ثم تتابعت اكتشافاته منذ الثلاثينات من هذا القرن في العديد من المناطق في آسيا وأوروبا وإفريقيا ومعظمها تؤرّخ بين (600- 200) ألف سنة ق.م، ولها تسميات مختلفة حسب مناطقها. من أحدث الاكتشافات التي أتت من منطقة بيلزنج ليبن (Bilzingsleben) في ألمانيا. ومن منطقة وادي نورمادا (Normada) من موقع هاتنورا (Hatnora) في الهند ودمانيزي (Dmanizi) في جورجيا وبينيتا (Pineta) في إيطاليا. وسانداليا (Sandalya) في كرواتيا وموقع ناريوكوتومي (Noriokotome) قرب بحيرة تركانيا في إفريقيا. وهناك الإنسان الذي وجد في موقع العبيديّة في حوض نهر الأردن بفلسطين وأرّخ حوالي 700 ألف سنة ق.م. ولكن هذه اللّقى غير كافية لتحديد صفات هذا الإنسان إذ إنّ ما عثر عليه من مكانه الأصلي كان عبارة عن سنّ قاطعة بينما أتت بقيّة اللّقى من سطح الموقع. ولكن هناك لقى متفرّقة للهومواركتوس بينها عظم فخذ من جسر بنات يعقوب وعظم فخذ آخر من موقع الطابون الطبقة E وجمجمة موقع الزطية التي تنسب إلى نوع متأخّر من الهومواركتوس حسب بعض الأنروبولوجين وقد تكون نوعاً من الإنسان العاقل الباكر حسب آخرين ولكن أهم كشف معروف حتّى الآن لهذا الإنسان هو العظم الجداري اليساري للرأس الذي وجد في الطبقة الثامنة من موقع الندويه في سورية وهذا ما سوف نتحدّث عنه بشيء من التفصيل لاحقاً.
ويقسم الباحثون هذا النوع إلى صنفين:
الأوّل: آسيوي ويسمّونه الهومواركتوس Homo-Ecectus.
والثاني: أفريقي ويطلق عليه الهوموارغاستر Homo-Ergaster.


صفاته الفيزيولوجيّة:
يحمل الهومواركتوس صفات فيزيولوجيّة وحضاريّة أكثر تطوّراً من سلفه، فهو كائن منتصب القامة يتراوح طوله بين (150- 160) سم وحجم دماغه بين (800- 1000) سم3 وجمجمته أكثر تدوّراً وجبهته أقل ميلاناً إلى الخلف وعظام حواجبه بارزة ومتّصلة وذقنه مازالت غير واضحة.


اكتشافاته:
  
كان الهومواركتوس أكثر قدرة من سابقه في السيطرة على بيئته الجغرافيّة لأنّه دخل مناطق باردة جديدة، في أوروبا وآسيا واستفاد بشكل أكبر من الملاجئ والمغائر الطبيعيّة، كما اهتدى لأوّل مرّة إلى بناء الأكواخ البسيطة التي دلّت عليها الاكتشافات من تانزانيا وسوريا وفرنسا وبفضل هذه الأكواخ استطاع الإقامة في مختلف المناطق بغضّ النظر عن طبيعة الطقس، بعد أن ارتدى أوراق الأشجار والنبات وجلود الحيوانات، كما أنّه عرف مبكّراً، النار التي حقّقت له فوائد كبيرة من التدفئة والإنارة وطبخ طعامه بعد أن كان يأكل اللّحم نيئاً وفي الدفاع عن النفس فكان اكتشاف النّار بالنسبة له يعتبر كاكتشاف الذرّة بالنسبة لنا في يومنا هذا. وقد عثر على دلائل لهذه النار في كينيا في موقع شيسوانجا (Chesowanja) وفي غادب (Gadeb) في أثيوبيا تؤرّخ على أكثر من مليون سنة. كما اكتشف آثار معرفة النار في مواقع أراغو (Araqo) وأريناك (Organaz) ومينزدراغان (Menez Dragan) وتيرا أمات (Terra- Amata) في فرنسا وشوكوين (Choukutien) في الصين، وفرتسشوليس (Vertesszolos) في المجر.
وبالإضافة إلى الأدوات الحجريّة التي قام بصنعها، صنع الأدوات العظميّة والخشبيّة لكن لم يصل إلينا منها إلاّ النادر، ونعتقد بأنّه أقام حياة اجتماعيّة منظّمة وشكّل الأسرة الأولى التي يقف على رأسها أب تتبعه زوجة أو عدّة زوجات وأولاد، وعرف تقسيم العمل حسب الجنس والسّن فاشتغل الرجال في المجالات الشّاقة كالصيد بينما عملت النساء في اللّقط وتدبير أمور البيت والصغار.


الخاتمة:
ومن هنا نخلص إلى أنّ المعلومات الأساسيّة عن عصور ما قبل التاريخ هي حصيلة جهود مضنية من البحث والتنقيب تمّ من خلالها العثور على المستحاثات واللّقى الأثرية للهومواركتوس ومعطيات العلوم المساعدة الأخرى، أدّت إلى ظهور إنسان نياندرتال الذي هو أكثر تقدّماً وتطوّراً في الشّكل والفهم والإدراك والإبداع الذي هيّأ لوجود الإنسان العاقل فيما بعد واختراع الكتابة.

بقلم:

بسمة قره


هناك تعليق واحد:

  1. مقال جدير بالقراءة.. كل الشكر لهذه المدونة الرائعة

    ردحذف

INSTAGRAM FEED

@gh330kam